كل الاتضاح إذا بحثنا عن أسباب بلوغ المعاني القلوب، فترى أَنَّ الألفاظ ربما تُصرف عن قواعدها الصحيحة العامة لأجل المعنى الذي يبلغ نفسه بقوة فيه ويجد الألفاظ حجاباً وثقلاً عليه، كما أن ملكاً جعل نفسه سفيراً. فالبليغ هو المعنى واللفظ مركبه، فالمعنى أجدر باللحاظ في حسن الكلام. فذلك برهانان ثم نعززهما بثالث، وهو أََنََّّ العرب لم يحمدوا الكلام إلا لحسن معناه، وليس لهم نزوع إلى قول أدى الخبث فإنهم يذمونه ويحتقرونه." (ص10).
ويذكر أبياتاً لزهير بن أبي سلمى ويستحسنها ثم يقول:" فهذا يبين لك أَنَّ حسن الكلام تابع لحسن المعنى، فلا تسمي الكلام حسناً إلا بعد أن حسن معناه، ولا تترك للكلام فضيلة إلا صحة الأداء، فإذا أُدّي الكلام من قلب المتكلم أدى حقه، ولكنه مع ذلك غير بليغ إنْ لم يكن المعنى مما يبلغ القلب. وكثر في كلام العرب ذم الفحش، والخنا، والهجر، والبذاءة حتى إذا خلط شعرهم بهذي المساوئ صار ساقطاً. ألا ترى كيف أمر الحجر بقتل ابنه امرئ القيس لقول الشعر، وسَمّاه الناس ضِلِّيلاً؟ وكيف ذموا النابغة لمدحه الملوك. والعرب تحب مدح الشاكر، وذم الساخط، وتأنف عن مدح المُتذلل" (ص11).
وذكر أَنَّ كلامه هذا ليس بِدْعَا, واستشهد بكلام للجاحظ الذي جعل مدار البلاغة نور العلم وطهارة القلب, ثم يقال: "وهل ينشأ الكلام من غيرهما, ويُهتدى للقول الصائب دونهما؟ " .. واستشهد ببيت عبيد بن الأبرص:
القائل القَوْلَ الذي مثله
يمرعُ منه البلدُ الماحلُ
والبيت:
وإِنَّ أحسنَ بيتٍ أنت قائِلُه
بيتٌ يُقال إِذا أنشدته صدقا
ثم قال:"وهذان الشاعران ذكرا أمرين:
الأول: أراد قولاً لا تصلح به أمور الناس فنظر إلى جهة أخلاقية.
والثاني: أراد قولاً يقبله القلب لكونه حقاً ناصعاً فنظر إلى جهة عقلية وأيد رأيه بالقرآن الكريم، فإن الله تعالى سمى كلامه بليغاً؛ لأنه يبلغ القلب حيث قال:"وقُلْ لهم في أنفسهم قَوْلاً بليغاً" (النساء 63) وحيث قال":"فللَّهِ الحُجَّةُ البالغِةُ" (الأنعام 149) فاتضح أَنَّ أبلغ الكلام أبلغه في القلوب وأهداه إلى العقل.
عرض الفراهي هذا كله ليوضح رأَيه في المحاكاة، ولينتهي إلى الحكم القاطع الذي لَخَّصه بقوله:"وإذا علمت أَنَّ حسن الكلام ليس في محض كونه محاكاةً بل في إِبلاغ المعاني من المتكلم، وإنَّ غايته ليست إطراب السامع بل كونه سفيراً صادقاً للعقل، وإنَّ التلذّذ بها ليس لكون المحاكاة داخلة في عنصر الإنسان، بل لأن فيه استعمالاً رفع قواه، وأَنْ ليست المحاكاة بل النطق من خصائص الإنسان، وأَنَّ الصدق يلزم المخبر فإن خالطه الكذب أحبطه عن درجته، وأَنَّ سوء المعنى يمحو عنه اسم البلاغة، فإذا علمتَ هذه الأمورَ اتَّضح لك الفرقُ بين مذهب أرسطو ومذهبنا، واتَّضح لك في هذا الرأي من الائتلاف والمناسبة بين أجزائه مع شرف المكان" (ص13).
فصحة المعنى، وصدق القول، والنظرة الخلقية، والنظرة العقلية هي أساس بلاغة الكلام وليست المحاكاة التي نادى بها أرسطو. أما الكذب الذي في الشعر" فَلَيْسَ إلاَّ لغرض صحة التمثيل، فإنك لا تبلغ الأمر المبهم فتُعطيه شكلاً وتشخصاً، فإنْ أعياك الخبر أعطيت الشكل من قبل خيالك، وليس المراد منه إلا التصوير، وهذا هو المطلوب من الأمثال وحكايات العجماوات، وهو أخو التشبيه" وأما "كَذب المبالغة في التشبيه وغير التشبيه فتعلم أَنَّ الشاعر لا يُخبر إِلاّ عن نفسه" ثم قال:" فإن كان كذب المبالغة غير متجاوز بهذا الحد أي إحساس النفس فهي عين الصدق. كان فمن لم يعلم هذا الأمر لم يفرق بين الإحساس والافتراء، فظن الكذب من أجزاء الشعر، والشعر ليس بناؤه إِلاَّ على الصدق" (ص13).
وفَرَّق بين الشعر والخطابة، وذكر قول أرسطو وهو أَنَّ الشعر حكاية عن أفعال الناس معاليها ومخازيها، والفراهي لا يفرق بينهما من هذه الجهة؛ لأن الشعر والخطابة شريكان في البلاغة، وأنه لا يفرق بين الشعر وغير الشعر في الوزن والقافية فحسب، بل للشعر أوصاف أخر، كما أن الخطيب ليس كل مَنْ قال:"أما بعد". والفرق بينهما أًنَّ الشاعر يشعر بأمر فيهتاج للقول فيقول، وليس هيجانه للقول إِلاّ لأِنَّه أكثر الناس شعوراً، أي إحساساً نفسانياً، وهذا الشعور يعمل فيه فينبه متخيله، ونطقه، وغناءه، فتيقظ فيه هذه القوى، ويدبّ الإحساس في جميع مشاعره، فيفيض منه
¥