تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الكلام.

أما الخطيب فهو ليس بأقلَّ من الشاعر شعوراً، ولكنه فارَقَ الشاعر في أَنَّه غالب على شعوره، فليس حاله كالمصدور، ولكنه قاهر على نفسه ومنغمس في المخاطبين، فهمّه التأثير في غيره، كما أَنَّ الشاعر لا همَّ له إلاَّ الانقياد لقوى تعمل فيه، فالخطيب لا يُفارق الشاعر في الهيجان ولا في قلة الشعور، ولكنه بزيادة صفة عالية استحق هذا الاسم، فالشاعر ملتفت إلى الماضي والخطيب ينظر إلى المستقبل. فالخطيب أرفع منزلة لغرضه الأعلى، وأقوى عقلاً، وأشد قوة، وأذكى نفساً، كما أن الشاعر أغنى طبعاً، وأرق فطرة، ولذلك وصفت العرب الخطبة بالحكمة والبيان والفصل، ووصفت الشعر بالسحر.

هذا فضلاً عن أن الشعر يمتاز بالوزن، إذْ إِنَّ منه ما ينبعث من نبع الروح، أشبه بالنفس في الاشتعال، وهذا هو الشعر الشاعر، وليس كل كلام زيّنهُ المجاز والتشبيه، لأَنَّ مثل ذلك يحفل به الكلام المنثور. إِنَّ الشاعر "يتأثر بأمر فيهيج فيه الوزن والنغمة والرقص، فما من شاعر إِلاّ فيه عرق من هذه الانبعاثات" وقد سلك الفراهي هذه –أي العروض والنغمة والرقص- في سلك واحد لأَنها في الحقيقة كذلك، وهذا مما "خفي كُنْهُهُ على أرسطو فإنه لم يكن شاعراً فلم يَدْرِ ما لم يذق، فزعم كما زعم في أمر الشعر أَنَّ النغمة والرقص محاكاة؛ لأن فيهما إظهاراً لواردات النفس والأحوال والأعمال. وإِنما قال ذلك لأِنَّه رأى المغنين والرقاصة يظهرون بالغناء والرقص (من جهة أثر الأول وإشارات الثاني) أحوال النفس وأفعال الناس. فمر بأمرٍ لو تأمل فيه أو كان له من الوجدان كوجدان الشاعر، علم أَنَّ هذه الأمور لم تُستعمل للمحاكاة وإظهار ما تظهره إلاّ لأَنها نتائج من أحوال النفس، مثلاً التأوه لا يُظهر الحزن، والتَّبسم لا يُظهر المَسرَّة إلاّ لأَن النفس تفهم هذه الإشارات" (ص16). وهذه الإشارات فطرية مثل أن النطق فطري ولا علاقة لها بالمحاكاة.

ولو لم يكن الفراهي شاعراً ما استطاع أَنْ يتكلم على الشعر هذا الكلام الذي لا يُدركه إلا الشعراء، أو الذين وُهِبوا ذوقاً رفيعاً، وإحساساً رقيقاً، كالفراهي الذي نظم الشعر وهو في السادسة عشرة من عمره، وقد عارض في تلك السن قصيدة خاقاني الشرواني الملقب بحسان العجم وهي قصيدة صعبة الرديف. وطبع ديوان شعره الفارسي عام 1903م، وله ديوان آخر ترجم فيه صحيفة أمثال سليمان إلى الفارسية، وقد طبع في حياته بحيدر آباد (خردنامه). وديوان باللغة العربية طبع سنة 1387هـ (ينظر كتاب مفردات القرآن للفراهي ص14، 22، 29).

لقد أهَّلَتْهُ شاعريته لتلمس الفروق بين الشعر والخطبة، ومكَّنته لغته الإنكليزية من أن يطَّلع على التراث الغربي، ويؤلف بها رسالة في عقيدة الشفاعة والكفارة ردّ بها آراء بعض علماء النصارى. (المصدر السابق ص 23).

واستمر الفراهي في عرض آرائه في الكلام، وفَرَّق بين الشعر والنثر البليغ، وذكر أَنَّ أول من أخطأ في عدم التمييز بين الشعر والنثر البليغ أرسطو وآخر هو (جان مل). وأرسطو أشنع قولاً فإنّه ظن "أَن للمحاكاة طرقاً شتى. وفي الكلام وسيلة لمحاكاة ثلاث: وزن، وألفاظ، ونغمة، فهذه محاكاة فرادى ومثنى وبأجمعها. ثم ظن أن المحاكاة هي الشعر، ومحاكاة معالي الأمور هي التي تسمى ابوبيه ( EPOPEE) القسم الذي اختاره هومروس فقال: إِنَّ ابوبيه تُحاكى بوسيلة الألفاظ وحدها كمكالمة سقراط، أو بوسيلة الألفاظ مع النظم كنظم فلان وفلان. ثم قال: إنَّ العادة علقت الوزن بالشعر، ولكن الذين نظموا كتباً في الطب أوْلى باسم الطبيب منهم باسم الشاعر. وإنه أصاب فيما قال: إن مجرد الوزن لا يتم به الشعر، ولكن العلة ليست أَنَّ الوزن ليس من أجزاء الشعر بل لأن الكل لا يوجد بمجرد أن يوجد منه جزء، فجعل كلام هومروس وسقراط شيئاً واحداً، وزعم علاقة الوزن بالشعر نشأت من العادة. وأما (جان مل) فقارب الإصابة فيما فهم أنَّ الشعر هيجان، والشاعر يخاطب نفسه، فأمن بهذا الظن تخليطاً بين الشاعر والخطيب أو الحكيم، فلا يكاد يُعَدّ كلام سقراط من الشعر، ولكنه أوضح قولاً من أرسطو بأن الوزن أمر زائد على الشعر" (جمهرة البلاغة ص17 - 18).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير