والمشبه به، وإلاَّ جعلوهما شيئاً واحداً" (ص40). وأوضح دلالة التشبيه بقوله:" اعلم أَنَّ الباعث الأول على التشبيه هو حرص الناطق على إظهار ضميره واستعمال قوة النطق بقوة حتى يجعل السامع كأنه قد رأى، وجرّب فتأثر به بما يزيده وضاحة وأثراً.
والباعث الثاني أن الناطق لا ينطق لمحض الإظهار ولكن ليؤثر في السامع، ويحركه، ويجلب رغبته أو نفرته إلى محض السمع ليعجب نفسه والناس بنطقه بالتصوير العجيب الحسن النادر، ويتوسل بذلك إلى أمور أُخَر من جلب الصيت أو منافع أُخر.
والباعث الثالث أنّه يتوسل بالتشبيه إلى تقرير، أو تحريض من جهتين مختلفتين:
الأولى: أَنَّ المثل أشبه بأَنْ يكون كَمِثْله في أمور أُخَر.
والثانية: أَنّ الأمر العقلي أو الدعوى المجهولة إذا صوّرت محسوسة أسرع الذهن إلى التأثر بها لفطرته بالتأثر للمحسوس وتعوده بذلك كما ترى الناس يقرأون القصص المكذوبة، ويضحكون، ويبكون، ويفرحون، ويحزنون بها مع علمهم بكذبها.
وانتهى إلى أَنَّ التشبيه "إيضاح، وإعجاب، وتقرير، وتأثير (ص 46) وجرَّهُ الكلامُ على التشبيه إلى نقد عبد القاهر فقال:" إِنَّ المولَّدين زعموا أَنّ الندرة والبعد في التشبيه من محاسنه، وقد أسهب الجرجاني –رحمه الله- في إثبات ذلك، وجمع التشبيهات الرديئة، وإِنّا نُورد عليك منها لكي تعمل فيها ذوقك وتبين سخافتها" (ص47). ولم يذكر الأمثلة التي وصفها بالسخف في المبحث الذي سماه "المذهب الباطل في التشبيه".
وكلام الفراهي باطل، لأَنَّ التشبيهات التي ذكرها الجرجاني من الروائع، وكان تحليله لها أكثر روعة وبياناً (ينظر أسرار البلاغة ص 64 وما بعدها).
وأصول البلاغة عند الفراهي: مطابقة الكلام بالمعنى، والوضوح، ونفي الفضول، وحُسْن الترتيب، والمقابلة، والتشبيه، والتمثيل من جهة الوضوح، وتنقيح اللفظ من المطابقة، وهذه من الموضوعات التي بحثها البلاغيون المتقدِّمون. ثم تكلم على الاعتدال، ومطابقة الكلام بالمعنى، وسذاجة الكلام، والترتيب، والمقابلة، وتمييز المعاني وفَرْق درجاتها، وتنقيح الألفاظ، والإيجاز، وأُصول الإيجاز والإطناب، والإيجاز والإطناب، وادخار الألفاظ والأساليب، ومنبع الكلام، وواسطة العقد. وبذلك ينتهي القسم الأول من الكتاب، ويأتي القسم الثاني وهو "القسم الخصوصي".
(3)
لم يُوَضِّح الفراهي سبب تسمية القسم الثاني بالخصوصي مع العلم أَنَّه بدأَ بدلالة الفصل، وقد يُظن أَنّه سيتحدث عنه كما يتحدث البلاغيون، ولكنه نحا منحى أقرب إلى الذوق وروح الأدب. يقول:"إِنْ سردت الكلام سرداً ذهبت غافلاً عن بعض المعاني، بل ربما بَدَّلت المعنى مثلاً إِنْ لم تقف على كلمة المرسلين في قوله تعالى:" وجاءَ من أَقْصَى المدينةِ رَجُلٌ يَسْعَى، قال: يا قومِ اتَّبِعوا المُرسَلينَ، اتَّبِعوا مَنْ لا يَسْأَلكم أَجْرا وهُمْ مُهْتَدون" (ياسين 20 - 21) غفلت عن قوة الدليل، وأكدت على الأمر كأنك قلت: اتَّبِعوا اتَّبِعوا، فهذا مع الغفلة يرد المعنى من الأمرين إلى أمر واحد" (جمهرة البلاغة ص62).
لم يتحدث الفراهي في هذا المبحث عن الفصل ومواقعه، وإنما ذكر الآيتين الكريمتين اللتين وقع الفصل بينهما حينما أعاد – سبحانه وتعالى- الفصل (اتَّبِعوا). والجديد في مبحث الفصل والوصل أَنَّ الفراهي ربطه بالخيال، يقول:" ثم الفصل يجعل الخيال جِسْرَاً بين معنيين، فإنْ وصلتهما لم يكن للخيال سبيل بينهما" (ص62).
وعقد مبحثاً بعنوان "حظ السامع" (ص63) وهو رعاية جانب السامع، ومن هذا اللون: الاستفهام لينتبه السامع، والسكوت ليستريح، وبعض الحذف ليصير السامع متكلماً في نفسه فيعمل عقله، ومنبهات الرغبة والنفرة، والالتفات لينتبه بما أحس من تجديد، والتمثيل ليشاهد محسوساً، فينتبه من رقدته، وكل تبدل من الحركات، والالتفات وهيجان الضحك والحزن. فهذه مع فوائده الأُخَر أسباب لانتباه السامع. وتعرض لمباحث الحذف ومواقعه، وإدراج الدليل، والترتيب في النسق، والمقابلة، والاستثناء، وانتهاز الفرصة، والمجاز، والكناية، والتشبيه، ودلالة المجاز في الأزمنة، ولسان الغيب، والإشارة والتَّعريض. وهذه من فنون البلاغة التي وجدت سبيلها إلى التأليف، وإن جاء بعضها متأخراً في مسيرة البلاغة العربية.
¥