تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد عرضت وضعية "الخسارة" أو الشق الأول من الصورة للإنسان المخبر عنه على العموم في سياق مؤكد بالقسم وحرفي التوكيد "إن" و "اللام" و"حرف الجر" في "الدال على الظرفية المجازية التي شبهت ملازمة الخسر بإحاطة الظرف بالمظروف فكانت أبلغ من أن يؤتى بـ "إن الإنسان لخاسر" ([ xlii]). كما زاد التأكيد التعبير بالمصدر عوضاً عن الصفة حيث أفاد ذلك كله التهويل والإنذار بالحالة المحيطة بمعظم الناس ([ xliii]) لأن الخسر هو تضييع رأس المال ورأس مال الإنسان هو عمره وهو قلما ينفك عن تضييع هذا العمر وذلك لأن كل ساعة تمر بالإنسان مصروفة إلى معصية أو مشغولة بالمباحات فالخسران حاصل ([ xliv]).

أما متى يكون هذا الخسر أهو واقع في هذه الحياة الفانية أم في الحياة الأخروية الباقية فلم يصرح به ولكن المراد به الحصول في المستقبل بقرينة الإنذار والوعيد أي لفي خسر في الحياة الأبدية الآخرة فلا التفات إلى أحوال الناس في الحياة الدنيا [ xlv]). وحين عمد التعبير إلى تعريف كل من "العصر" و"الإنسان" نكَّر صلب القضية وهو "خسر" وإذا عرفنا التنكير بمعنى كون الشيء مجهولاً ومنكوراً معنى شامل وعميق صالح لأن يتولد منه معاني كثيرة وذلك إذا أجراه في التعبير بصير بأحوال الكلمات خبير بسياسة التراكيب ([ xlvi]) فكيف والقائل رب العباد وخالقهم العالم بأمورهم والبصير بأحوالهم لذا أفاد هنا التنويع أو التعظيم والتعميم في مقام التهويل ([ xlvii]) أو التحقير ([ xlviii]) وبذلك يذهب الفكر والخيال في تصور كيفية هذه الخسارة وعمقها ومداها مذاهب شتى بل ويبدأ البحث في أسبابها وكيفية تجنبها.

وحتى لا تكون هذه الوضعية عامة لكل إنسان جاء الاستثناء المتصل بـ "إلا" وهي أداة استثناء "تفيد النفي بعد التحقيق" ([ xlix]). مستخدماً اسم الموصول "الذين" الدال على الجمع مستثنى من الإنسان وهو واحد والمسوغ لذلك أن الإنسان وإن كان لفظه لفظ واحد إلا أنه في معنى الجمع ([ l]) وبذلك يتقرر الحكم تاماً في نفس السامع مبيناً أن الناس فريقان فريق يلحقه الخسران وفريق لا يلحقه شيء منه فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يلحقهم الخسران بحال إذا لم يتركوا شيئاً من الصالحات بارتكاب أضدادها وهي السيئات ([ li]) ولمَّا بيَّن في أهل الاستثناء أنهم يإيمانهم وعملهم الصالح خرجوا عن أن يكونوا في خسر وصاروا أرباب السعادة من حيث تمسكوا بما يؤديهم إلى الفوز بالثواب والنجاة من العقاب وصفهم بعد ذلك بأنهم قد صاروا لشدة محبتهم للطاعة لا يقتصرون على ما يخصهم بل يوصون غيرهم بمثل طريقتهم ليكونوا أيضاً سبباً لطاعات الغير فالتواصي بالحق يدخل فيه سائر الدين من علم وعمل والتواصي بالصبر يدخل فيه حمل النفس على مشقة التكليف في القيام بما يجب وفي اجتنابهم المحرم إذ الاقدام على المكروه والاحجام عن الملاذ كلاهما شاق جداً ([ lii]) فالتلازم حاصل بين كل من الإيمان وعمل الصالحات والتواصي بالحق والتواصي بالصبر وبالأمرين الأولين يكمل العبد نفسه وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره وبتكميل الأمور الأربعة يكون العبد قد سلم من الخسارة وفاز بالربح العظيم ([ liii]) وفي ذلك جمع بين مسؤولية الإنسان الفردية وهي الإيمان بالله وعمل الصالحات ومسؤوليته الجماعية وهي التواصي بالحق وبالصبر، وبذلك تلغى الحواجز وتنكشف الأستار بين الفرد والآخرين أو بين الذات المتفردة وذوات الآخرين وتعلو مصلحة " المجموع " مما يحقق الخير والفلاح في الدارين.

ومن بلاغة التعبير في هذا المقام أنه في جانب الخسارة ذكرت النتيجة والحكم ولم تذكر الأسباب أما في جانب الربح فقد ذكر السبب مفصلاً تفصيلاً دقيقاً شاملاً وقد يرجع ذلك لأن الخسر كما يحصل بالفعل وهو الإقدام على المعصية يحصل بالترك وهو عدم الإقدام على الطاعة أما الربح فلا يحصل إلا بالفعل ([ liv]) وقد يرجع ذلك أيضاً إلى عموم أسباب الخسار فهي كثيرة متنوعة وأبوابها متشعبة تختلف مع اختلاف الأزمنة والأمكنة والرغبات والأمزجة أما سبب النجاة وطريق الفلاح فواحد لا يتغير مع الأحداث ولا يتبدل مع المستجدات ألا وهو الإيمان بالله وما يترتب عليه من عمل صالح وتواصٍ بالحق وبالصبر. وقد يكون – والله أعلم –في ذكر الخسارة تبكيت للإنسان لأن الخسر قد وقع نتيجة فعل حر منه " فالأعمال تضاف إلى العبد حقيقة إضافة المسبب إلى

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير