فالشاهد من هذا: أنّ علماء الجرح والتعديل ينظرون إلى روايات هذا الراوي ويقارنونها بحديث غيره من الثقات، وينظرون إلى موافقته أو مخالفته كمّاً وكيفاً، ويحكمون عليه في النهاية بأنّه ثقة، أو ضعيف، أو متروك، لكن لا يتأتى لهم أ، يحكموا بمثل هذا الحكم، إلا إذا كانت الراوية عن الرجل هذا الرجل كثيرة، ولماذا لا يحكمون على المقل بالتوثيق أو بالضعف؟ لأنَّ الراوي إذا كلان مقلاًّ فقد يكون ثقة، وما روى إلا حديثاً واحداً، وأخطأ فيه، فيقولون: هو متروك؛ لأنَّ كل حديثه خطأ، والمتروك أغلب حديثه خطأ، فكيف إذا كان كل حديثه خطأ؟ مع العلم بأنّ الثقة قد يهم، عند هذا قالوا: ما نستطيع أن نحكم عليه بأنّه متروك لخطئه في حديثه الذي رواه؛ لأنّ الثقة قد يهم، ولو فرضنا أنّه روى حديثاً صحيحاً، وقارنوه برواية غيره من الثقات، فرأوا هذا الحديث موافقاً، لماذا لا يوثّقونه؟ محتمل أن يكون كذّباً وتزين بهذا الحديث أمام أئمة الجرح والتعديل، من أجل أو يوثّقوه أو أنّه سرقه، ففي الحقيقية أنَّ الراوي إذا كان مقلا لا يتأتى لناقد أو لإمام من الأئمة أن يحكم عليه بتوثيق أو بتضعيف ... ، وكما يقول ابن عدي – رحمه الله تعالى -: «وفلان في مقدار ما يرويه لم يتبين ليّ صدقه من كذبه».
والذي يطالع في كتاب «الكامل» لابن عدي – رحمه الله تعالى – يجده يستخدم هذه العبارة في المقلّين،
فأعود وأقول: أسباب الحكم بالجهالة على الراوي هي:-
السبب الأول: إمّا أن يكون غير مشتغل بالحديث (2)،
السبب الثاني: أو أن يكون مقلا فلا يتأتى لهم الحكم عليه بالثقة إذا كانت أحاديثه صحيحة، ولا يتأتى لهم الحكم عليه بالترك إذا كانت أحاديثه ضعيفة؛ لأنّه ربّما وهم فيها وهو ثقة، فحين ذلك يقولون: هو مجهول.
السبب الثالث: إذا كان المدلّسون قد غيّروا اسمه، أو كنيته، أو ما يُعرف به، وتصرفوا في ذلك، فيأتي الناظر في الأحاديث، فيظن هذه الأسماء رجالاً كثيرين، فيكون هذا الراوي ما روى عنه إلا واحد، والثاني ما روى عنه إلا واحد، والثالث ما روى عنه إلا واحد، والثاني ما روى عنه إلا واحد، والثالث ما روى عنه إلا واحد، فيكون مجهولاً، مع أنّه لو عرف أنّ هذا الراوي هو الذي روي عنه هؤلاء جميعاً، لارتفع من جهالة العين إلى جهالة الحال على ما سيأتي إن شاء الله (3).
فالشاهد من هذا: أنَّ تصرف المدلّسين، وتعميتهم لحال الراوي وتعتيمهم للأمر، هو الذي يجعل أئمة الجرح والتعديل يحكمون على الراوي بأنّه مجهول، فنحن قد عرفنا المجهول بأنّه الذي لم يُخرّج ولم يُعَدّل، وتكلّمنا عن الأسباب التي تجعل الأئمة يحكمون على الراوي بأنّه مجهول، وحينئذٍ أعود إلى سؤال الأخ: ما هو تعريف مجهول العين، ومجهول الحال؟
فأقول: إنّ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله تعالى – ذكر في كتابه «شرح علل الترمذي»: أنّ المتقدمين قبل محمد بن يحيى الذهلي ما كانوا يقولون: بأنّ الجهالة ترتفع برواية اثنين من الرواة، بل كانوا يدورون مع القرائن، فقد يروي عن رجل جماعة ولا ترتفع جهالته، وقد يروي عن رجل واحد وترتفع جهالته، وأول من قال: «إنّ المجهول ترتفع جهالته برواية اثنين» هو محمد بن يحيى الذهلي (4).
والتعريف المشهور لمجهول العين: هو من روى عنه واحد ولم يوثق (5).
ومجهول الحال: «من روى عنه اثنان، ومن لم يوثقه معتبر» (6)، ويدخل في ذلك المستور مع تفاصيل في الفرق بين المجهول الحال، والمستور.
لكني أريد أن أقول: إنّ جهالة العين ترتفع بأمورٍ، منها:
رواية اثنين، ويشترط في هذين الراويين أن لا يكون أحدهما في حيز الرد أ, الترك، بل على الأقل يكونان ممن يستشهد بهما.
فمجهول العين الذي قد يشك في وجوده ترتفع جهالة عينه برواية اثنين عنه أو رواية واحد ممن يشترط أنّه لا يروي إلا عن ثقة ... وهم جمع كثير من العلماء قد جمعت منهم عدداً لا بأس به، سيأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى في الجزء الثاني من هذا الكتاب (7)، وقد يسأل سائل ويقول:
إذا انفرد بالراوية رجل – يشترط أنّه لا يروي إلا عن ثقة – عن أحد الرواة، هل يعتبر هذا توثيقاً له أم لا؟
والجواب:
بعض العلماء يطلق التوثيق على هذه الحالة، وفي هذا القول نظر، فإطلاق أ، هذا الإمام من الأئمة إذا انفرد بالراوية عن رجل يكون توثيقاً لأنه اشترط أن لا يروي إلا عن ثقة، يرد عليه ما يلي:
¥