أولاً: متى اشترط الإمام أن لا يروي إلا عن ثقة؟ هل اشترط هذا من أول تحديثه؟ أو اشترط هذا بعدما كبر وعلا شأنه في علم الحديث الراويات، فأصبح ينتقي عند التحديث؟.
الجواب: لم يعلم لنا متى اشترط هذا الإمام هذا الشرط، فلعلّه اشترطه مؤخراً، وكان قبل اشتراطه لهذا الشرط يحدث بأحاديث المجهولين والضعفاء، كما حدث من ابن مهدي في روايته عن الجعفي (8)، والدليل على ذلك أنّه ما من محدّث وصفوه بذلك، إلا وقد وجد في جملة رواياته الراوية عن بعض الضعفاء، فمالك بن أنس – رحمه الله – وصفوه بأنّه من هؤلاء، وهو الذي يروي عن عبدالكريم بن أبي المخارق، الذي يقول فيه الجوزجاني: «رحم الله مالكاً، غاص فوقع على خزفة منكسرة، لعله اغتر بكسائه» (9)، مع أن الإمام مالك بن أنس مثبت في الراوية.
والإمام أحمد – رحمه الله – وُصِف بأنّه لا يروي إلا عن ثقة، ومع ذلك يقول فيه ابن معين: «جْنَّ أحمد يروي عن عامر بن صالح» (10).
وشعبة وهو الذي اشترط أنّه لا يروي إلا عن ثقة، وقد وجد في روايته رواية عن ضعفاء.
ومِنَ العلماء من اشترط هذا الشرط، وصرّح بأنَّه حديث الرجل إلا إذا أجمع الناس على تركه. (11)
والذي يقرأ في تراجم العلماء وفي كتب الحديث والتراجم يظهر له ما قررته سابقاً؛ لأنّك لو تصوّرت نفسك الآن وأنت طالب علم في البداية، هل تستطيع أن تميز بين الثقة والضعيف، كتمييزك بعد أن تكون إماماً من الجهابذة؟
تمييزك في بداية الطلب ليس كتمييزك بعد أن تكون راسخاً في طلب العلم، فكم من رجل تضعفه اليوم وتوثقه غداً، وكم من رجل توثقه اليوم وتضعفه غداً، فالملاحظ من جهة الواقع العملي أن الطالب في بداية الطلب يريد أن يروي كل الأحاديث، ويثبت للمحدثين أن له مشايخ كثيرين، وأنّه صاحب رحلة لهؤلاء المشايخ جميعاً، وبعد أن يرسخ قدمه، ويعلو شأنه في هذا الأمر ينتقي، ويكون انتقاؤه في الراوية تعديلاً لمن روى عنه، وتركه الراوية تجريحاً لمن ترك الراوية عنه، وهو لا يكون معدِّلاً مجرِّحاً إلا بعد أن يرسخ قدمه، ويترجح لنا بذلك أن الذين وصفت تراجمهم أنهم لا يروون إلا عن ثقة، أنّهم ما التزموا هذا إلا مؤخراً.
غير أني أستثني من ذلك عبدالله بن الإمام أحمد بن حنبل – رحمهما الله – كما استثناه بعض العلماء؛ لأنَّهم قالوا: إنّه كان لا يكتب الحديث عن أحد المشايخ إلا بإذنٍ من أبيه (12)، وأبوه في ذلك الوقت كان له شأن بمعفرة الثقات والضعفاء، لكن قد يسأل سائل، ويقول: هل كل مشايخ عبدالله بن أحمد جميعاً ثقات؟
نستطيع أن نقول: إنّهم على الأقل ثقات عنده بمعنى أنّهم غير ضعفاء، ويدخل في ذلك الثقة والصدوق ومن فيه كلام يسير، وأنّهم عنده، وعند أبيه أحمد – رحمهما الله – كذلك إلا ما ظهر لنا خلاف ذلك فيعمل به والله أعلم (13).
ثانيا: وربّما أن الإمام منهم ذهل عن شرطه، وقد كان شعبة – رحمه الله تعالى – يحدث ببعض الأحاديث عن رواة ضعفاء، فقيل له: ما لك تحدث عن هؤلاء الضعفاء، وأنت لا تروي إلا عن ثقة، فتحدث عن جابر الجعفي؟ قال: «روى أشياء لا نقدر عليها أو لا نصبر عليها» (14).
فلما تردد الأمر بين أن يكون شيخ من ينتقى متروكاً؛ لأنّه ما روى عنه إلا واحد قبل الاشتراط بالانتقاء أو ذهل عن شرطه، وبين كونه ثقة، فالأمر متردد بين هذا وهذا.
فمن قال: ترتفع جهالة العين، ولكن لا يثبت التعديل، قول قريب من الصواب.
ومن تتبع صنيع الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «التقريب» علم أنّ كثيراً من التراجم التي ينفرد بالراوية فيها عن المترجم واحد ممن ينتقي وليس هناك جرح أو تعديل، فإنّه يترجم له بقوله: مقبول (15)، وأحياناً بقول: صدوق (16)، وأحياناً يقول: مجهول (17).
ومما يرفع جهالة العين معرفة الراوي بأي شيء غير الراوية، فقد يروي عنه واحد ولكنه يقول: مات في حروب الروم – مثلاً -، ونحوه أو كصنيع الإمام الطبراني – رحمه الله – حيث يقول: حدّثني فلان بالمكان الفلاني، وفي سنة كذا ويسمي البلد التي حدّثه فيها، وهذا يقوي رفع جهالة العين؛ لأنّه من المؤكد أنّه لقي هذا الشيخ، ومما يُستدل به على رفع جهالة العين كثرة رواية الراوي الواحد عن شيخه، كما صرّح بذلك شيخنا الألباني – رحمه الله -.
¥