قلت: هذا تفصيل غريب جداً، فاين الدليل عليه؟ ومن سلفهما فيه؟ وهل هذا التفصيل خاص بتوثيق ابن حبان ام له نظير مناسب في حق كل واحد من النقاد؟ ومتى كانت احكام الرواة تتفاوت كل هذا التفاوت الخطير باعتبار كثرة وقلة من رووا عنهم؟ ما الذي اوجد مثلاً كل هذه الفروق الكبيرة البعيدة بل الكبيرة جداً البعيدة جدا بين من روى عنه ثلاثة، ومن روى عنه اربعة؟!! بحيث يكون خبر هذا حجة في ديننا، وخبر ذاك مهجوراً مردوداً عليه مشكوكاً فيه؟! ((10)) إن زيادة راو واحد في الرواة عن الرجل لا يُتصور انها تنفعه كل هذا النفع؛ ونقصه لا يتصور انه يضره كل ذلك الضرر ((11))!
وعلى كل حال فان الصواب في الذين وثقهم ابن حبان وارتفعت جهالة اعيانهم اعتبار كثرة رواياتهم واوصاف وشروط الرواة عنهم لا كثرتهم وحدها؛ ولعل القول الوسط في هذا الباب هو قول المعلمي رحمه الله إذ قال في التنكيل (ص669 - 670): «التحقيق ان توثيق ابن حبان على درجات:
الاولى: ان يصرح به كأن يقول (كان متقناً) أو (مستقيم الحديث) أو نحو ذلك.
الثانية: ان يكون الرجل من شيوخه الذين جالسهم وخبرهم.
الثالثة: ان يكون من المعروفين بكثرة الحديث، بحيث يعلم ان ابن حبان وقف له على احاديث كثيرة.
الرابعة: ان يظهر من سياق كلامه انه قد عرف ذلك الرجل معرفة جيدة.
الخامسة: ما دون ذلك.
فالاولى لا تقل عن توثيق غيره من الائمة، بل لعلها اثبت من توثيق كثير منهم.
والثانية قريب منها.
والثالثة مقبولة.
والرابعة صالحة.
والخامسة لا يؤمن فيها الخلل، والله اعلم».
19 - ظهر من صنيعهما انهما عند توثيق ابن حبان لراو وتجهيل احد الأئمة له يقدمان التوثيق بشرط ان يكون الرواة عنه ثلاثة او اكثر، فقد قالا (3/ 45) في علي بن صالح المكي: «بل صدوق حسن الحديث، فقد روى عنه جمع وذكره ابن حبان في الثقات، أما قول ابي حاتم: (مجهول) فمدفوع برواية الجمع عنه، ومنهم ثقات 000»، ولهذا المثال في الكتاب نظائر، انظر منها ما في (2/ 132و216) و (3/ 147).
والصحيح في هذا ان توثيق ابن حبان وحده لا يقاوم ذلك التجهيل، وان قامت قرينة مانعة من ارادة جهالة العين حمل الكلام على جهالة الحال كما هو الحال هنا ((12)).
20 - ومن اتكائهما على ما لا يصلح متكأ للتقوية قولهما (3/ 10) في عروة بن محمد: «ويقوي حاله انه وال لعمر بن عبد العزيز»، وهذا استناد الى قول ابن كثير في البداية والنهاية (9/ 216 - العلمية): «صرح كثير من الأئمة بأن كل من استعمله عمر بن عبد العزيز ثقة».
وهذا الكلام فيه نظر، والأمانة شيء وكون الراوي ثقة في الرواية شيء آخر.
21 - قالا في راو قال فيه ابن عدي: يسرق الحديث: «ضعيف يعتبر به»، كذا قالا مع أن من يسرق الحديث حقه الترك؛ نعم كان ابن معين حسن الظن به ولكن ذلك لا ينفعه بعد ان ورد فيه هذا الجرح المفسر ممن عُني بعلم ابن معين وغيره، أعني ابن عدي.
22 - لام المؤلفان ابن حجر (1/ 43 - 44) حيث قالا: «ولم يبين غايته الواضحة من هذا التصنيف، وماذا تعد مرتبة حديث كل واحد منهم» وهما ملومان كذلك، إذ لم يبينا مرتبة حديث مجهول العين ومجهول الحال.
23 - قالا (1/ 40): «ومن ذلك أيضاً [يعنيان الجرح المردود] وصف عدد من التابعين الذين لم يدركوا أحداً من الصحابة او بعضهم وارسلوا احاديثهم ((13)) بالتدليس، مثل سليمان بن مهران الاعمش وحبيب بن ابي ثابت ويحيى بن ابي كثير والحسن البصري وابي اسحاق السبيعي ونحوهم؛ فهؤلاء وامثالهم اذا رووا عن الصحابة لم يقبل حديثهم الا اذا صرحوا بالسماع منهم، اما اذا رووا عن التابعين ولم يصرحوا بالسماع فيقبل حديثهم» ((14)).
قلت: هذا فيه خلل من جهة التعبير وخلل اخر من جهة المعنى.
أما الاول: فإن في ظاهر كلامهما ان الراوي الذي لم يدرك احدا من الصحابة قد يسمى تابعيا، وهذا خطأ، وليس مرادا لهما قطعا، وانما هو خطأ في تركيب الالفاظ كما أشرت اليه أولاً. وتستقيم العبارة لو قالوا: (رووا عن صحابة لم يدركوهم).
¥