الثاني: أنهما- كما هو ظاهر كلامهما- ينفيان التدليس عن هذا القسم من الرواة مطلقا او في رواياتهم عن غير الصحابة ((15))؛ وسواء قصدا هذا او ذاك فهما واهمان فيه. فان التابعين المقصودين بكلامهما – ومنهم الذين ذكراهم للتمثيل – مدلسون مشهورون بالتدليس، وقد أثبت تدليسهم كبار الائمة، فنفي التدليس من اصله عن هؤلاء امر غريب حقا؛ والقول أن عنعنتهم عن الصحابة ترد وعن التابعين تقبل غريب ايضا، ولا ادري ما مستندهما فيه! وهل قال به احد من العلماء قبلهما؟ فإن كانا يقولان ان هؤلاء مدلسون فعنعنة المدلس حكمها في نفسها واحد لا يتجزأ وهو الرد، وان كانا يقولان انهم غير مدلسين وان الذي كانوا يفعلونه انما هو الارسال الخفي او الظاهر، فكيف يجعلان لهذا الارسال حكما كليا باعتبار طبقات الرواة وقد علم ان الطبقات تتداخل وان بعض التابعين اقدم وفاة من بعض الصحابة، وان بعض التابعين ارسل عن بعض التابعين ارسالا خفيا او جليا، في حين كانت رواياته عن شيوخ له من الصحابة متصلة.
وفي الجملة فان التدليس والارسال الخفي والارسال الجلي لا يخصها من يتعاطاها من الرواة بصغير ممن فوقه او بكبير، هذا هو الغالب، ولو افترضنا أنهم – أو بعضهم – كانوا يعينون من يذكرونه ويسمونه من شيوخهم ويعينون من يدلسونه منهم، فهل يسهل على من بعدهم من النقاد وضع الضوابط الدقيقة المفصلة لمعرفة حدود تدليسهم بحسب طبقات شيوخهم، أو بحسب الأزمنة أو الأمكنة أو غير ذلك؟! هذا ما لا يتيسر بل هو غير ممكن فلا معنى إذن للتفصيل المذكور ((16)).
24 - تعنت المؤلفان في قبول وصف الراوي بالتدليس في مواضع كثيرة من الكتاب، وردا احياناً وصف الناقد للراوي بالتدليس بأن النقاد الاخرين الذين بينوا حاله أطلقوا توثيقه ولم يذكروا تدليساً؛ وهذا الرد او التعقب فيه نظر أيضاً، فان من علم حجة على من لم يعلم واطلاق التوثيق من قبل ناقد مع سكوته عن ذكر التدليس لا ينافي اثبات التدليس من قبل ناقد آخر ((17)).
وتوقفا (2/ 38) في التفريق بين التدليس والارسال الخفي فقالا: «---مع انهم قد ذكروا جماعة روى عنهم ولم يسمع منهم وفيهم كثرة، وما ندري مثل هذا يسمى تدليسا ام ارسالا؟».
قلت: ليس هذا بتدليس، ويظهر لي ان جمهور العلماء بالحديث قدماء ومتأخرين كانوا يفرقون بينهما، وان قليلا منهم كابن حبان والخليلي كانوا يسمون الارسال الخفي تدليساً، وهل كان هؤلاء يشترطون في تسميته تدليساً تعمد فاعله الإيهام أم لا؟ هذا ما ينبغي أن يحرر؛ وعلى كل حال فالتحقيق أن الارسال الخفي لا ينبغي أن يعد تدليساً ترد به عنعنة صاحبه عمن لقيه الا بشرط ان يتبين ان مراد فاعله ايهام السماع، ومن تبين هذا منه فهو مدلس قطعاً؛ وبهذا يجمع بين ما قد يظهر من تناقض بين عبارات بعض الأئمة في تعريف التدليس، كالخطيب في الكفاية ((18)).
25 - قالا (4/ 78) في النسائي: «وهو من المتعنتين في التعديل»؛ وهذا الكلام غير مسلم؛ وقد بينته ضعفه في غير هذا المبحث.
26 - كان عدد من العلماء يتساهلون أحياناً في توثيق التابعين وتابعيهم، ولم يراع المصنفان ذلك.
27 - تكلما (ا/35 - 38) على البدع غير المكفرة وانتهيا إلى أن الجرح بها مردود مطلقاً، ونقلا في ذلك الفصل كلاماً لابن حجر وغيره، وفي بعض كلامهما وكلام ابن حجر ما ينتقد، ولا أطيل بذلك في هذا الموضع، وإنما اكتفي بالإحالة على الفصل النفيس البديع الذي كتبه في حكم رواية المبتدع العلامة المعلمي في قسم القواعد من (التنكيل)؛ ففيه من التفصيلات والتنبيهات ومن المناقشات لابن حجر وغيره ما لا أعلمه يوجد في مكان آخر.
28 - ومما يؤخذ عليهما أنهما توسعا في رد طائفة من التجريح بدعوى أنه بسبب العداوة أو الحسد أو الدخول على السلطان أو الاختلاف في العقائد أو التحامل أو الرأي أو غير ذلك، نعم هما كانا مصيبين في بعض ذلك ولكنهما توسعا فردّا بالأعذار المذكورة جملة من التجريح المقبول من قائليه.
29 - وثقا شيوخ أبي داود، ولهما في ذلك سلف ولكن في هذا الصنيع تساهل، وإليك تبيان الأمر مفصلاً:
قال ابن القطان في بعض الرواة كما في نصب الراية (1/ 199): «وهو شيخ لأبي داود، وأبو داود إنما يروي عن ثقة عنده».
¥