كان مولده بآمل وهي عاصمة اقليم طبرستان، وهي مدينة خرجت كثيرا من العلماء، لكنهم جميعا ينسبون إلى طبرستان، فيقال لكل منهم الطبري، وقد سمي طبرستان بهذا الإسم؛ لأن الجبال تشغل أكثر مساحته، وسكان الجبال كثيرو الحروب، وأكثر أسلحتهم الأطبار، فليس بينهم فقير ولا غني، ولا صغير ولا كبير إلا وبيده "الطبر" ([3])، فسميت بلادهم طبرستان أي بلاد الأطبار، أو موضع الأطبار.
وقيل: سمي بطبرستان لأنها لما افتتحت وابتدئ ببنائها كانت أرضا ذات شجر،.
ويقول الإمام ابن جرير (رحمه الله): "قال لي أبو حاتم: من أي بلد أنت؟ قلت: من طبرستان، قال: ولم سميت طبرستان؟ فقلت: لا أدري، فقال: لما افتتحت وابتدئ ببنائها كانت أرضا ذات شجر فالتمسوا ما يقطعون به الشجر، فجاءوا بهذا الطبر الذي يقطع به الشجر، فسمي الموضع به" ([4]).
بدأ سعيد بن العاص فتح هذا الاقليم في عهد عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، فلما تولى معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه) بعث إليها مصقلة بن هبيرة ومعه عشرون ألف رجل، فأوغل ([5]) فيها، لكن أهلها ترصدوا لهم في المضايق، فقتلوا "مصقلة" وأكثر رجاله، فكان المسلمون بعد ذلك إذا غزوا هذه البلاد تحفظوا وحذروا التوغل فيها.
فلما تولى يزيد بن المهلب خراسان في أيام سليمان بن عبد الملك سار حتى وصل إلى طبرستان، وقاتل أهلها، فصالحوه، ولم يزالوا يوفون بصلحهم مرة، ويغدرون أخرى إلى أيام مروان بن محمد، فإنهم نقضوا عهدهم، ومنعوا جزيتهم، فوجه إليهم السفاح عاملا فصالحوه على مال، ثم غدروا وقتلوا المسلمين في خلافة المنصور، فأرسل إليهم ثلاثة من قواده فحاربوهم وانتصروا عليهم.
وفي أيام المأمون افتتحت جبال شروين من طبرستان، وهي من أمنع الجبال وأصعبها، فولى المأمون المازيار بن قارون، الذي قد شارك في فتح الجبال، وسماه محمدا، فلم يزل واليا عليها حتى توفي المأمون، فأقره المعتصم ولم يعزله، لكنه بعد ست سنوات من ولاية المعتصم غدر وخالف، فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر واليه على المشرق ([6]) يأمره بمحاربته، فلما قصدته جنود الخليفة وجنود ابن طاهر سلم ([7]).
حليته:
كان الإمام الطبري مديد القامة، نحيف الجسم، أسمر اللون، مائل إلى الأدمة، واسع العينين، فصيح اللسان، مليح الوجه، كبير اللحية توفي ولم يمتلئ رأسه بالشيب وسواد لحيته غالب على البياض ([8]).
نبوغه المبكر وطلبه العلم:
بدأ طلب العلم من الصغر وعهد به والده إلى علماء (آمل) قبل أن يبلغ السن التي تؤهله للتعلم، وسرعان افتتح عقله وبدأت عليه علامات النبوغ وهو حدَث، يقول: "إني حفظت القرآن ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا في التاسعة.
وكان هذا النبوغ المبكر حافزا لأبيه على الجد في اكمال تعليمه، وبخاصة أنه رأى حلما تفاءل من تأويله، قال الطبري: "رأى لي أبي في النوم أنني بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومعي مخلاة ([9]) مملوءة بالأحجار، وأنا أرمي بين يديه"، فقص رؤياه على المعبِّر، فقال له: "إن ابنك إن كبر نصح في دينه، وذب عن شريعته، فحرص أبي على معونتي على طلب العلم، وأنا حينئذ صبي صغير" ([10]).
وأغلب الظن أن والده لم يحبس هذه الرؤيا في نفسه، بل أخبر بها ابنه الصغير، ولعله أخبره بها مرات، فكانت هذه البشارة من حوافز أبي جعفر إلى الاجتهاد في طلب العلم، والدأب النشيط في الاستزادة من ينابيعه، ثم الكد المتصل في التدريس والتأليف طيلة حياته ([11]).
¥