كذا قال الإمام الذهبي رحمه الله، وأما الإنصاف الذي هو بمعنى إرادة العدل وحب التوسط والحرص على الإصابة والتحقيق في الأحكام النقدية، وبغض الظلم وكراهة الجور في تلك الأحكام، فلا شك في إثبات ذلك لابن عدي ولجميع أئمة النقد الثقات الأثبات، دون سواهم ممن هو مطعون في عدالته؛ وأما إثبات الاعتدال والوسطية في الأحكام التي أصدرها ابن عدي، بمعنى نفي التساهل والتشدد عنه فقد يناقش الإمام الذهبي في ذلك، وقد لا يسلَّم له فيه؛ ثم إن الذهبي نفسه لا يخلو من تساهل في نقد الرواة أو بعض طبقاتهم، ولا سيما في كتابه المذكور؛ ومعلوم أن الناقد الذي يتساهل قد يحكم على من كان مثله بالاعتدال وقد يرى في المعتدلين تشدداً، فهو إنما يقيس الناس بنفسه ويعتبرهم على طريقته.
وقال عبد الفتاح أبو غدة في تعليقه على (الرفع والتكميل) للكنوي (ص58): «في عد ابن عدي من المعتدلين نظر طويل، إذ هو من المتعنتين على الحنفية وغيرهم»، وهذا قول باطل مردود.
وانظر قدح عبد الفتاح في الإمام الحافظ ابن عدي وتحامله عليه في تعليقه على الكتاب المذكور (ص208 - 210) وكذلك (ص58) و (ص186).
ومن توسع ابن عدي وتجوزه في استعمال اصطلاحات النقد أنه وابن عدي يستعمل لفظة (أرجو أنه لا بأس به) بمعنى غير المتبادر من معناها فيما لو استعملها غيره من النقاد، ومن لم يفطن إلى هذه المسألة فربما استنبط منه أن ابن عدي شديد التساهل في نقد الرواة.
قال العلامة المعلمي رحمه الله تعالى في تعليقه على (الفوائد المجموعة) للشوكاني (ص459) منتقداً على السيوطي قوله في بعض الرواة الواهين جداً (ووثقه ابن عدي فقال: أرجو أنه لا بأس به) ما نصه: «ليس هذا بتوثيق، وابن عدي يذكر منكرات الراوي ثم يقول (أرجو أنه لا بأس به)، يعني بالبأس تعمد الكذب».
وقال في هذه اللفظة في التعليق المذكور أيضاً ص35: «وهذه الكلمة رأيت ابن عدي يطلقها في مواضع تقتضي أن يكون مقصوده: (أرجو أنه لا يتعمد الكذب). وهذا [يعني الموضع الذي عليه هذا التعليق] منها، لأنه قالها [أي كلمة (أرجو أنه لا بأس به)] بعد أن ساق أحاديث يوسف [هو ابن المنكدر]، وعامتها لم يتابع عليها».
وقال هناك أيضاً ص501: «لفظ ابن عدي (هو من أهل الصدق) يعني لم يكن يتعمد الكذب».
وقال الشيخ الألباني رحمه الله في (السلسلة الضعيفة) (3/ 112): «ان قول ابن عدي (أرجو انه لابأس به) ليس نصاً في التوثيق، ولئن سلم فهو في ادنى درجة في مراتب التعديل أو أول مرتبة من مراتب التجريح مثل قوله (ما اعلم به باساً، كما في (التدريب) (ص234)».
وقال في تخريج الحديث (1938) من (سلسلة الأحاديث الصحيحة) (ج4ص577 - 578): «قول ابن عدي [يعني في راوٍ مذكور هناك] (أرجو أنه لا بأس به)، أوله: (منكر الحديث عن ثابت وغيره، ولا يتابع، وأحاديثه أفراد وأرجو أنه لا بأس به، وهو خير من بشار بن قيراط).
قلت: ابن قيراط كذبه أبو زرعة وضعفه غيره، فكأن ابن عدي يعني بقوله أنه لا بأس به؛ من جهة صدقه، أي أنه لا يتعمد الكذب، وإلا لو كان يعني من جهة حفظه أيضاً لم يلتق مع أول كلامه (منكر الحديث---).
وقال ابن حبان: ينفرد عن ثابت بأشياء ليست من حديثه. قلت: فمثله إلى الضعف بل إلى الضعف الشديد أقرب منه إلى الصدق والحفظ، والله أعلم».
تنبيه:
من القواعد التي لا صحة لها أصلاً ونسبت خطأً إلى ابن عدي – ولو صحت نسبتها إليه لدلت على تساهل مفرط في توثيق الرواة - ما نسبه اليه صاحب (توجيه القاري الى القواعد والفوائد الاصولية والحديثية والاسنادية في فتح الباري) (ص188)، إذ قال: «قال ابن عدي: ان الثقات اذا رووا عن احد فهو مستقيم الحديث»، وعزا هذه القاعدة المزعومة الى هدي الساري (ص429)؛ وابن عدي لم يقل هذا الكلام البين البطلان، وانما قال في عكرمة مولى ابن عباس: «اذا روى عنه الثقات فهو مستقيم الحديث، ولم يمتنع الأئمة من الرواية عنه»؛ يريد ان الضعف في بعض احاديثه انما تبعته على الضعفاء الذين رووا عنه تلك الاحاديث، وهذا في غاية الظهور. وهذه ليست بأول زلة عجيبة من صاحب هذا الكتاب، واخطاؤه فيه كثيرة، ومن أفحشها أنه نقل (ص355) عن (هدي الساري) (ص447) أن الدولابي كان شديداً على أهل الرأي!!! والمعروف المشهور الذي لا يخفى هو أن الدولابي عالم حنفي فيه تعصب لأهل الرأي، لا عليهم.
ـ[محمد الأمين]ــــــــ[10 - 12 - 05, 06:32 م]ـ
بارك الله بكم يا شيخ خلف، فقد أفدتم في كتاباتكم كثيراً. وأضيف إلى ما تفضلتم به:
قول ابن عديٍ عن الراوي: «أرجو أنه لا بأس به» ليست على بابها دائماً، بل هي كلمةٌ معناها واسعٌ عنده. فأحياناً يستعملها مع تضعيفه للراوي الذي قالها عنه. وقد استعملها أيضاً في حقِّ من هو من الحفَّاظ الثقات. فقد قال عن الحكم بن عتيبة وسماك بن حرب (2
844): «ليس بهما بأس». ومن المعلوم أنَّ الحكم من الثقات الأثبات. ولذلك لا يلزم من قول ابن عدي في "الكامل" عن الراوي: «أرجو أنه لا بأس به» تعديلاً له منه.
قال ابن القطان الفاسي في كتابه "الوهم والإيهام" (4
324): «فأما أبو أحمد بن عدي فإنه ذكر الرجل (موسى بن هلال) بهذا الحديث، ثم قال: "ولموسى غير هذا ... " وهذا من أبي أحمد قولٌ صدر عن تصفُّح روايات هذا الرجل، لا عن مباشرةٍ لأحواله. فالحق فيه أنه لم تثبت عدالته». قال الشيخ عبد الله السعد (ص47): «وأنا أذهب إلى ما ذهب إليه ابن القطَّان. وهذا بناءً على أنَّ قول ابن عديٍّ "أرجو أنه لا بأس به" تقوية له. ولكن الصحيح: أنَّ هذه الصيغة من ابن عديٍّ لا تفيد ذلك عنده. فقد أطلقها على رواةٍ ضعَّفهم هو وغيره».
¥