انتهى كلام الشوكاني رحمه الله؛ وهو كلام حسن متين ولكنه لا يخلو من نوع مبالغة في نصرة السيوطي وإطرائه، ونوع إفراط في لوم السخاوي والتثريب عليه، وكأن ذلك حصل بسبب ميله إلى السيوطي لدعواه الاجتهاد، والحقيقة أن السيوطي لم يكن من دعاة الاجتهاد الذي دعا إليه الشوكاني بكل قوة وفي كل مناسبة، وهو اتباع الدليل ومحاربة التقليد والرجوع إلى ما كان عليه السلف من طريقة التفقه وكيفية الاستدلال، وإنما السيوطي كان من أدعياء الاجتهاد المطلق الذي من معانيه الإحاطة بما بين الناس من علوم دينية وإمكان معرفة كل مسألة علمية بتفاصيلها وأدلتها!! لا من الدعاة إلى الاجتهاد الذي هو الاتباع للدليل الشرعي ونبذ التقليد والتعصب للمذاهب، وإلا فأين المسائل الفقهية التي خالف فيها السيوطي الجمهور أو على الأقل الشافعية منهم؟ وإن وجد شيء من تلك المسائل فما هو حجمها وما هو خطرها؟
هذا في باب الفقه، وقل نحو ذلك في سائر العلوم الشرعية؟
وقد لخص ترجمة السيوطي فأجاد جداً الأستاذ المحقق الدكتور محمد لطفي الصباغ في مقدمته لكتاب السيوطي (تحذير الخواص من أكاذيب القصاص) (ص31 - 53) فذكر تعريفاً موجزاً بعصره ثم ذكر اسمه ونشأته ثم ذكر اعتداده بنفسه ودعواه الاجتهاد والتجديد ووصف مزاجه وأنه كان له خصومات مع كثير من معاصريه وأنه كان يعنف في خصومته ولا يلين وأنه صاحب حدة وميل للمشاحنة ثم ذكر خلافه مع ابن ظهيرة وخصومته مع السخاوي، ثم عقد فصولاً لوضعه الاجتماعي ومؤلفاته ومرضه وموته وقبره.
قال (ص42 - 47):
(أما خصومته مع السخاوي فهي ذائعة مشهورة ويستطيع الدارس لها أن يقف من وراء الكلام على حقائق مهمة بعد أن يستبعد المبالغة واللدد، فقد استطعت أن أقف على الحقائق التالية بعد أن درست قصة الخلاف بينهما:
1 - كان كل من السخاوي والسيوطي حاد المزاج شديد الخصومة لاذع النقد، لا يخلو كلامهما من المبالغة.
2 - في قصة الخلاف تصوير للجو العلمي الذي كان في القرن التاسع وذكرٌ لعدد من القضايا التي كان يهتم بها المثقفون في ذاك الحين.
3 - وفي قصة الخلاف هذه توضيح لبعض الأمور عن السيوطي وذكرٌ لبعض الاتهامات تتلخص فيما يلي:
1) استعانته ببعض العلماء في تألبف كتبه.
2) استفادته من بعض الكتب المهمة والتي ليست بشائعة.
3) اختصاره بعض الكتب.
4) عدم تلقيه بعض العلوم عن الرجال، واعتماده في معظم علومه على الكتب.
5) كثيراً ما نجد في مؤلفاته كتباً صغيرة لا تتجاوز الورقات القليلة وهو مع ذلك يسميها كتباً.
وأود أن أنبه إلى خطأ نشأ من إطلاق كلمة تشيع على ألسنة كثير من طلبة العلم، وهي (أن حكم المتعاصرين [يعني المختلفين] بعضهم في بعض غير مقبول).
إن هذا الإطلاق خطأ كبير في رأيي، ذلك أن أقدر الناس على الحكم على إنسان معين معاصروه الذين خالطوه وعاشروه وعرفوه المعرفة التامة؛ والصواب أن نطلب التأني في قبول الحكم، والتأمل فيه، واشتراط التقوى في الذي يصدر هذا الحكم وبراءته من اللدد في الخصومة والمنافسة في الدنيا والمبالغة المتطرفة في الحكم، قال الحافظ الذهبي [في الميزان 1/ 111]:
(كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس؛ اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا انك رؤوف رحيم).
وقال ابن عبد البر [في جامع بيان العلم وفضله 2/ 162]: (لا يقبل فيمن صحت عدالته وعُلمت بالعلم عنايته وسلم من الكبائر ولزم المروءة والتعاون وكان خيره غالباً وشره أقلَّ عمله، فهذا لا يقبل فيه قول قائل لا برهان له به، فهذا هو الحق الذي لا يصح غيره إن شاء الله).
وقال ابن حجر [في لسان الميزان 1/ 168]: (وممن ينبغي أن يتوقف في قبول قوله في الجرح من كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها الإختلاف في الإعتقاد----؛ ويلتحق بذلك ما يكون سببه المنافسة في المراتب، فكثيراً ما يقع بين العصريين الاختلاف والتباين لهذا وغيره، فكل هذا ينبغي أن يتأنى فيه ويتأمل)؛ [وانظر في هذا الموضوع (التنكيل) 1/ 52 - 59 وجامع بيان العلم 2/ 150 - 163 وطبقات الشافعية 2/ 9 - 22].
¥