ومما عيب به (الكفاية) أن الخطيب رحمه الله ذكر فيه أموراً يسيرة أخذها من كتب بعض الأصوليين المتأثرين كثيراً أو قليلاً بطريقة علماء الكلام، فانتشر ذلك التأثير في كتب المصطلح بعد الخطيب، وكان له أثر غير جيد؛ وإن كان الخطيب ليس المسؤول الوحيد عن ذلك؛ ولا فعله إلا عن حسن قصد، وسلامة وجهة؛ وفي ما يلي مثال على ذلك.
قال الدكتور حاتم العوني في (المنهج المقترح):
(المبحث الثاني: مثال تأثر علوم السنة بأصول الفقه من خلال نافذتها الأولى، وهي: ما درسته كتب أصول الفقه من علوم السنة:
إن من أول ما يبدأ به الأصوليون باب (السنة)، هو تقسيم الأخبار إلى قسمين: (متواتر) و (آحاد)، والكلام عن إفادة كل قسم ٍ منها، وحكم العمل بخبرهما.
ثم وجدنا هذا التقسيم ذاته، والكلام نفسه، في كتب علوم الحديث، بدءأً بـ (الكفاية) للخطيب البغدادي (ت 463هـ)، وانتهاءً بالمصنفات المعاصرة في علوم الحديث.
والخطيب البغدادي عندما تكلم عن هذا التقسيم وأحكامه لم ينسب ما ذكره من ذلك إلى أهل الحديث، بل كلامه واضح أنه نقل عن كتب أصول الفقه!
حتى قال ابن الصلاح أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري، المتوفي سنة 643هـ في كتابه (معرفة أنواع علم الحديث): (ومن المشهور: المتواترُ الذي يذكره أهل الفقه وأصوله، وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص، وإن كان الخطيب قد ذكره، ففي كلامه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث؛ ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم، ولا يكاد يوجد في رواياتهم).
بل قال ابن أبي الدم الشافعي (إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم الهمداني الحموي، المتوفي سنة 642هـ) [كما نقله عنه الزبيدي في لقط الآلئ المتناثرة ص17]:
(اعلم أن الخبر المتواتر إنما ذكره الأصوليون دون المحدثين، خلا الخطيب أبا بكر البغدادي، فإنه ذكره اتباعاً للمذكورين؛ وإنما لم يذكره المحدثون لأنه لا يكاد يوجد في روايتهم، ولا يدخل في صناعتهم).
وقد اعتُرضَ على ابن الصلاح، بما نقله الحافظُ زين الدين العراقي (عبد الرحيم بن الحسين، المتوفى سنة 806هـ) في (التقييد والإيضاح)، حيث قال: (وقد اعترض عليه بأنه قد ذكره أبو عبد الله الحاكم، وأبو محمد ابن حزم، وأبو عمر ابن عبد البر، وغيرهم من أهل الحديث.
والجواب عن المصنف: أنه إنما نفى عن أهل الحديث ذكره باسمه المشعر بمعناه الخاص، وهؤلاء المذكورون لم يقع في كلامهم التعبير عنه بما فسره به الأصوليون، وإنما يقع في كلامهم: أنه يتواتر عنه صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، أو أن الحديث الفلاني متواتر، وكقول ابن عبد البر في حديث المسح على الخفين: إنه استفاض وتواتر [انظر التمهيد 11/ 137]؛ وقد يريدون بالتواتر: الاشتهار، لا المعنى الذي فسره به الأصوليون) [التقييد والإيضاح ص266].
******
وأما كتابه الآخر (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) فقد وصفه، أي مصنفه، في أوائله (1/ 79) بقوله:
(وأنا أذكر في كتابي هذا ـ بمشيئة الله ـ ما بنقلة الحديث وحُمّاله حاجة الى معرفته واستعماله، من الأخذ بالخلائق الزكية، والسلوك للطرائق الرضية، في السماع والحمل والأداء والنقل، وسنن الحديث ورسومه، وتسمية أنواعه وعلومه، على ما ضبطه حفاظ أخلافنا عن الأئمة من شيوخنا وأسلافنا، ليتبعوا في ذلك دليلهم، ويسلكوا بتوفيق الله سبيلهم، ونسأل الله المعونة على ما يرضى، والعصمة من اتباع الباطل والهوى).
وهذان الكتابان – (الكفاية) و (الجامع) - كثر ثناء العلماء عليهما، كما كثر ثناؤهم على مؤلفهما رحمه الله تعالى، وحق لهم ذلك، فلقد كان أحد أساطين هذا العلم، وعلى يديه اكتمل بنيانه - أو كاد -، وإلى نحو هذا المعنى أشار ابن نقطة إذ قال:
(لا شبهة عند كل لبيب أن المتأخرين من أصحاب الحديث عيال على أبي بكر الخطيب).
ولقد حقق كتاب الجامع هذا وطبع في سنوات متقاربات ثلاث مرات!.
ومن كتبه الأخرى في المصطلح كتابه الثالث (تقييد العلم)، وهو نفيس أيضاً؛ وقد طبع بتحقيق الدكتور يوسف العش.
قال في أوله بعد أن حمد الله وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم:
¥