تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

((--- وغالب الأحكام إنما تبني على غلبة الظن، والظن قد يخطئ، والظنون تتفاوت؛ فمن الظنون المعتد بها ما له ضابط شرعي، كخبر الثقة؛ ومنها ما ضابطه أن تطمئن إليه نفس العارف المتوقي المتثبت، بحيث يجزم بالإخبار بمقتضاه طيب النفس منشرح الصدر؛ فمن الناس من يغتر بالظن الضعيف فيجزم؛ وهذا هو الذي يطعن أئمة الحديث في حفظه وضبطه فيقولون: (يحدث على التوهم - كثير الوهم - كثير الخطأ - يهم - يخطئ)؛ ومنهم لمعتدل؛ ومنهم البالغ التثبت؛ كان في اليمن في قضاء الحجرية قاض كان يجتمع إليه أهل العلم ويتذاكرون؛ وكنت أحضر مع أخي؛ فلاحظت أن ذلك القاضي، مع أنه أعلم الجماعة فيما أرى، لا يكاد يجزم في مسألة، وإنما يقول: (في حفظي كذا، في ذهني كذا)، ونحو ذلك؛ فعلمت أنه ألزم نفسه تلك العادة حتى فيما يجزم به، حتى إذا اتفق أن أخطأ كان عذره بغاية الوضوح.

وفي ثقات المحدثين مع هو أبلغ تحرياً من هذا، ولكنهم يعلمون أن الحجة إنما تقوم بالجزم، فكانوا يجزمون فيما لا يرون للشك فيه مدخلاً، ويقفون عن الجزم لأدنى احتمال؛ روي أن شعبة سأل أيوب السختياني عن حديث فقال: أشك فيه، فقال شعبة: شكك أحب إلي من يقين غيرك. وقال النضر بن شميل عن شعبة: لأن أسمع من ابن عون حديثاً يقول فيه: (أظن أني سمعته) أحب إليَّ من أن أسمع من ثقة غيره يقول: (قد سمعت). وعن شعبة قال: (شك ابن عون وسليمان التيمي يقين).

وذكر يعقوب بن سفيان حماد بن زيد فقال: معروف بأنه يقصر في الأسانيد ويوقف المرفوع كثير الشك بتوقيه، وكان جليلاً، لم يكن له كتاب يرجع إليه، فكان أحياناً يذكر فيرفع الحديث، وأحياناً يهاب الحديث ولا يرفعه. وبالغ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب فكان إذا سئل عن شيء لا يجيب حتى يرجع إلى الكتاب؛ قال أبو طاهر السلفي---)) ثم ذكر ما تقدم عنه.

خامساً: عظم خدمته لعلم المصطلح:

مما ينبغي أن يذكر هنا هو أن الخطيب خدم علم المصطلح خدمة لا أعلم أحداً سبقه إلى مثله ولا أحداً جاء بعده إلا وكان على كتبه في المصطلح – أو على فروعها – معتمداً، ومنها مستمداً، ولا سيما كتابه الفذ (الكفاية في قوانين الرواية) وكتابه الشامل الجامع (الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع).

أما (الكفاية في علوم الرواية) فهذا الكتاب لم يؤلف في هذا الفن قبله ما يدانيه في حسن جمعه وسعته وكثرة نفعه ودقته؛ وهو الكتاب الذي حشر فيه مؤلفه أهم أقوال من تقدمه من علماء الحديث في مسائل المصطلح، فجمع وأوعى، وكاد أن يستوعب أهم أبواب هذا الفن أصلاً وفرعاً؛ وإنه لحقيق بما وصفه به أحد لجنة تحقيقه في دائرة المعارف العثمانية وهو العلامة المعلمي اليماني رحمه الله تعالى، إذ قال في خاتمة طبعه:

(--- فقد تم طبع (كتاب الكفاية في علم الرواية) للإمام الكبير الحافظ الشهير أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، وهو الكتاب الذي جمع من أحكام مصطلح الحديث كل ما يُحتاج إليه، وأوعب في نقل الأقوال، وإقامة الأدلة على ما ينبغي التعويل عليه).

ولقد بين مؤلفه الخطيب رحمه الله تعالى أهم مقاصد الكتاب إذ قال في آخر خطبته:

(وأنا أذكر بمشيئة الله تعالى وتوفيقه، في هذا الكتاب ما بطالب الحديث حاجة إلى معرفته، وبالمتفقه فاقة إلى حفظه ودراسته، من بيان أصول علم الحديث وشرائطه، وأشرح من مذاهب سلف الرواة والنقلة في ذلك ما يكثر نفعه، وتعم فائدته، ويستدل به على فضل المحدثين، واجتهادهم في حفظ الدين، ونفيهم تحريف الغالين وانتحال المبطلين، ببيان الأصول من الجرح والتعديل والتصحيح والتعليل، وأقوال الحفاظ في مراعاة الألفاظ، وحكم التدليس، والاحتجاج بالمراسيل، والنقل عن أهل الغفلة، ومن لا يضبط الرواية، وذكر من يرغب عن السماع منه لسوء مذهبه، والعرض على الراوي، والفرق بين قول (حدثنا) و (أخبرنا) و (أنبأنا)، وجواز إصلاح اللحن والخطأ في الحديث، ووجوب العمل بأخبار الآحاد، والحجة على من أنكر ذلك، وحكم الرواية على الشك وغلبة الظن، واختلاف الروايات بتغاير العبارات، ومتى يصح سماع الصغير، وما جاء في المناولة، وشرائط صحة الإجازة والمكاتبة، وغير ذلك مما يقف عليه من تأمله ونظر فيه إذا انتهى إليه، وبالله أستعين، وهو حسبي، ونعم الوكيل).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير