والثالث: الوعاظ والخطباء والدعاة ونحوهم، وأكثر هؤلاء قد فحش تساهلهم في إيراد الواهيات والموضوعات والاحتجاج بها أو الاستئناس بها، وليس هذا القسم على شرطنا أيضاً، وذلك لكثرتهم وعدم انحصارهم ولغلبة هذا الداء المذكور عليهم، ولأن المعني بالدراسات العلمية في الغالب إنما هم أهل العلم المعتبرة أقوالهم أو المنظور إليهم في ذلك العلم دون سواهم.
والرابع: العامة الذين اشتهر على ألسنتهم كثير من الأحاديث الباطلة والمختلقة، وواضح أن هذا الصنف لا يمكن أن يكون ذكر أفراده من شرط هذا البحث.
والخامس: تساهل الرواة الذين يروون ما ثبت وما لم يثبت، وهذا كثير جداً بل هو الغالب على أكثر الرواة، ولا دخل لهم في هذا البحث أيضاً.
وتلخيص هذا التقسيم أن يقال:
التساهل أنواع منه التساهل في الرواية، والتساهل في نسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى غيره ممن تنتهي إليهم الأخبار المروية، وهذان النوعان متقاربان؛ ومنه التساهل في الاحتجاج بالأحاديث، ومنه التساهل في نقدها ونقد رواتها، وهذا هو موضوع هذا الكتاب.
3 - تساهل النقاد نوعان:
الأول: تساهل في القواعد أو المعاني وهو الذي يعنينا هنا.
الثاني: تساهل في المصطلحات أو الألفاظ، وهذا تجوز وتوسع باستعمال المصطلح بمعنى غير معناه الذي استعمله به الجمهور.
وهذا النوع الثاني جائز ولا يشاح فاعله إذا بين مراده بذلك المصطلح؛ وكذلك لا يطلق عليه وصف التساهل، ولكنه يسمى متساهلاً مع التقييد، كأن يقال مثلاً: ابن حبان يتساهل في كلمة (صحيح) فيطلقها على الحديث الحسن كما يطلقها على الحديث الصحيح.
والتشدد نوعان أيضاً كالتساهل.
ولا بد هنا من التنبيه على مسألة، وهي أننا إذا رأينا واحداً من النقاد يستعمل لفظة (صدوق) مثلاً في مرات كثيرة على من هو عند التحقيق ثقة، أو على من هو عند التحقيق لا يرتقي إلى رتبة الصدوق، فإن هذا لا يلزم منه أنه متساهل في استعمال لفظة (صدوق) وأنه يستعملها أحياناً بمعنى (ثقة) فإنه يحتمل أن يكون مضطرباً في قواعده في النقد أو في أحواله في التساهل والتشدد والاعتدال، أو أنه متفاوت الأمر في سعة اطلاعه على أحوال الرواة وما قيل فيهم؛ والحاصل أنه لا يصح تعيين أحد هذه الاحتمالات إلا بقرينة صحيحة كافية.
4 - إن التساهل والتشدد الواقعين من بعض المحدثين غير قادح في علماء هذا الفن؛ وغير مانع من كونهم أئمة فيه، قال الذهبي في (الموقظة) (ص84): (وقد يكون نفَس الإمام فيما وافق مذهبه أو في حال شيخه ألطفَ منه فيما كان بخلاف ذلك؛ والعصمة للأنبياء والصديقين وحكام القسط [يريد العصمة من مثل ذلك الميل، لا العصمة المطلقة فإنها للأنبياء خاصة]، ولكن هذا الدين مؤيد محفوظ من الله تعالى لم يجتمع علماؤه على ضلالة لا عمداً ولا خطأً؛ فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة، وإنما يقع اختلافهم في مراتب القوة أو مراتب الضعف).
5 - من تسرع أو وهم أو أثر فيه الغضب أو الرضا فوثق الضعيف، فإنه لا يسمى بسبب ذلك متساهلاً، وإن تكرر منه ذلك، إلا إذا كثر كثرة دالة على ميله إلى توثيق أو تقوية الضعفاء، أو دالة على استناده إلى قواعد متساهلة؛ وقُلْ نظير ذلك في التشدد.
والحاصل أنه لا يسمى متشدداً أو متساهلاً إلا من كان ذلك ديدناً وصفة لازمة له، ولو في طائفة معينة من الرواة، كالتابعين مثلاً أو الناصبة أو أهل الرأي، أو في كتاب معين من كتبه دون سائرها.
6 - المراد بالتشدد عند النقاد نقلهم الراوي من رتبة يستحقها في التعديل أو التجريح إلى ما هو دونها أو أسوأ وأشد منها، وضده التساهل؛ وكذلك التشدد والتساهل في نقد الأحاديث.
7 - قد يطلق بعض النقاد وصف الراوي أو الناقد بالتشدد وهو لا يريد أكثر من نفي التساهل عنه، فليتنبه لهذا الاحتمال.
"
يُتبع بإذن الله تعالى.
ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[04 - 02 - 06, 02:53 م]ـ
"
¥