مع أن فضيلته يعد ابن عدي فيمن صنف مسنداً لأبي حنيفة؟! وقال: (في عد ابن عدي من المعتدلين نظر طويل! إذ هو من المتعنتين على الحنفية وغيرهم)!!
وكان النسائي متعنتاً لأنه جرح أبا حنيفة، وأتحفنا بنقول عن تعنت أبي حاتم والنسائي وابن معين ويحيى القطان وابن القطان الفاسي وابن حبان، بل وتبكيت الذهبي لابن القطان شديداً.
وثمة طاقة أخرى من أشواك التعنت عند الجوزجاني وابن خراش وابن عقدة والذهبي نفسه.
وهناك ابن الجوزي وعمر بن بدر الموصلي والرضي الصاغاني وابن تيمية الحراني---.
هذه بعض مقتطفات لفضيلة الباحث أحببت لفت نظر القارئ إليها سريعاً حتى يتأكد أن وصف الباحث أحد الحفاظ بالتعنت لا يعني أن ذلك الحافظ متعنت وإنما يعني أحد أمرين:
الأول: أن يكون هذا الحافظ مخالفاً لما قرره الباحث أو يريد تقريره من مذهب أو منهج.
الثاني: أن يكون هذا الحافظ قد جرح أبا حنيفة أو انتقد على الحنفية بعض مذهبهم.
نعم قد يكون عند بعض الحفاظ تشدد في نظرتهم إلى بعض الرواة ولكن هذا ليس ناتجاً عن التعنت، وإنما هو نتيجة طبيعية لمنهج كل إمام من النقاد في الجرح والتعديل، فبعض النقاد يتشدد مع المبتدعة لأن من منهجه التضييق عليهم، وبعضهم يتشدد مع سيء الحفظ لأنه يرى الحيطة في الدين أولى.
أما دعوى التشدد والتساهل هذه فمردودة من جذورها على ما أوضحته في غير هذا الكتاب مطولاً» انتهى كلامه بلفظه.
وأقول: أما دعوى رد دعوى التشدد أصلاً ففيها نظر وتوقف، ولكنها ليست ببعيدة عن الحق، وإن كان قد ثبت ذلك عن بعض الأئمة مثل أبي نعيم وعفان، وهو نفسه قد قال كما تقدم قبل قليل: (فبعض النقاد يتشدد مع المبتدعة لأن من منهجه التضييق عليهم، وبعضهم يتشدد مع سيء الحفظ لأنه يرى الحيطة في الدين أولى)، أليس هذا إثباتاً لوقوع التشدد؛ بلى، فما ذكره هذا الباحث من هذه الأمثلة هو التشدد الذي يذكره المحدثون.
وأما رد دعوى التساهل عن الذين عرفوا به واشتهر عنهم فدعوى مردودة غير مقبولة وساقطة غير قائمة فقد ثبت ذلك بوضوح عند العجلي والطبري وابن حبان والترمذي والحاكم ثم المنذري والضياء المقدسي والهيثمي والسيوطي وغيرهم.
فإن قيل: ما وجه التفريق بين التشدد والتساهل حتى مِلتَ إلى نفي التشدد أو ندرته، بخلاف التساهل فقد ذهبتَ إلى وقوعه بكثرة؟ قلتُ: لأن كثيراً من النقاد بابهم السلامة، فيميلون إلى إحسان الظن وتقوية حال الراوي المحتمل أمره للتقوية ويقنعون بالنقد الظاهري دون تكلف التبحر والغوص على دقائق معاني النقد، وكان هذا المسلك هو الأوضح بين مسالك أكثر المتأخرين، بل هو الجادة عندهم، حتى لكأن الأصل عندهم في الرواة العدالة والحفظ وفي الأحاديث الصحة والثبوت، حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك.
وعلى كل حال فقد وقع من النقاد تساهل وتشدد، ولكن الاعتدال هو الغالب عليهم، وما وقع منهم في الجملة من التساهل كان في الحقيقة أكثر مما وقع منهم من التشدد، والمحققون المعتدلون من أهل العلم يعرفون – بمجموع ما عندهم من علم محقق - ما وقع من هذا وذاك.
وأما ما وقع في كلام العلماء من وصف يحيى بن سعيد القطان وبعض الأئمة الآخرين بالتشدد في نقد الرواة أو في انتقاء شيوخهم وأنهم تركوا جماعة من الرواة روى عنهم غيرهم من علماء الحديث؛ فهذا كله وما كان في معناه إنما هو - في مراد العلماء المحققين - تشدد يسير جداً، مبني على الاحتياط في أمر الحديث ومتفرع على كمال المعرفة بالرواة وعلل أحاديثهم، وهو إن لم يكن ميزة تَفَوُّقٍ في ذلك الإمام الموصوف بالتشدد فلن يكون بحال مغمزاً فيه أو مطعناً في علمه، ولكن هذا ما لم يفهمه بعض المتأخرين جداً وبعض المعاصرين فراح يدعي قواعد لا قواعد لها، ويطلق كلمات عن صراط العدل ما أعدلها، ويصف هؤلاء الأئمة الفضلاء بما يتعجب منه العقلاء ويمقت سماعه العلماء، ومن هؤلاء اللكنوي غفر الله له - وقلده التهانوي في قواعده – فإنه بالغ جداً وأسرف كثيراً حيث قال في (الرفع والتكميل) (ص176):
¥