22 - إذا اقتضى تفسير مصطلح لإمام من الأئمة وصفَ ذلك الإمام بالتساهل الفاحش الذي لا يليق بمثله فإن ذلك التفسير غلط، بل لا بد أن يكون غلطاً، وأكبر مثال على هذه المسألة تفسير المتأخرين لكلمة (حسن) عند الترمذي بأنها تعني ثبوت الحديث وصلاحيته للاحتجاج؛ وقد ثبت عند المحدثين - بتخريج أحاديث الترمذي التي حسنها - أن غالبها ضعاف، ومقتضى ذلك إما تساهل الترمذي تساهلاً فاحشاً، أو كونه جاهلاً بعلم النقد، وكلا المقتضيين باطل، فما اقتضاهما باطل حتماً، بل الترمذي إمام من أئمة الفن وعالم من علماء العلل، نعم قد يكون عنده شيء من تساهل، ولكن أن يكون من ذوي التساهل الفاحش فهذا ما لا يقوله منصف عارف.
إذن لا بد من تفسير هذا المصطلح من الترمذي بمعنى – أو معانٍ - يدل عليها الاستقراء ولا تنافي المسلمات الثابتة والأصول المقررة مثل كون الترمذي عالماً كبيراً من علماء هذا الفن وناقداً معتمداً، بين النقاد، في الجملة.
23 - ليس كل مخالفة تقع من الناقد المتشدد، لغيره من النقاد الموصوفين بالاعتدال، يكون القول الراجح فيها قولهم دون قوله، إذ لا يكفي وصفه بالتشدد قرينة على ترجيح قول مخالفيه، بل لا بد من النظر في كل القرائن الأخرى المحيطة بالمسألة؛ مقدار معرفة كل واحد من أولئك النقاد بذلك الراوي، ومعرفة مراتبهم في الاجتهاد والتقليد، واحتمال تقليد بعضهم بعضاً، وعددهم، ومنازلهم بين النقاد، ومقدار ما ذكروه لذلك الحكْم من تفصيل وتفسير، وغير ذلك مما له دخل في قضية الموازنة والترجيح بين قول ذلك الناقد الموصوف بالتشدد وقول مخالفه أو مخالفيه.
24 - من كان يتشدد أحياناً ويتسهل أحياناً أخرى ولا يعرف لتشدده وتسهله ضوابط تضبطهما فإن الفائدة من ذكره في المتشددين أو في المتساهلين قليلة إذ هي منحصرة فيما إذا خالفه من هم أكثر منه أو أعدل أو أعلم، فإنه يقال حينئذ لعله تسهل أو لعله تشدد، فيرجح حينئذ قول مخالفه رجحاناً ابتدائياًًًً، ولكن هذا الترجيح أظنه صعباً جداً، ثم إن النقاد من هذا النوع كثيرون جداً والاعتدال المطلق عزيز نادر، ولهذين السببين لم أُدخل هذا الصنف من النقاد في بحثي الذي ذكرت فيه الموصوفين بالتشدد والتساهل، والذي كنت كتبت أصل هذه المقالة مقدمة له.
25 - يرى كثير من المشتغلين بغير علم الحديث أو ممن اشتغلوا به ولم يسلكوا به طريقة أهله أن علماء الجرح والتعديل أصحاب تشدد وتعنت في النقد، وأنهم طعنوا بسبب ذلك في كثير من المحدثين والفقهاء والمؤرخين والأخباريين واللغويين وغيرهم من المشاهير الذين حقهم التوثيق.
وهذا ظن باطل، فإن أمر القوم أساسه العدل وقوامه الإنصاف، ومن ذا الذي يعدل من الناس إن لم يعدل علماء الحديث ونقاد الأثر؛ وهل عرفت الدنيا عدلاً كعدل المحدثين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟
ومما يجري مجرى هذه التهمة ما زعمه الكوثري إذ قال في تعليقه على شروط الأئمة الخمسة للحازمي (ص33): (وفي كثير من الكتب المؤلفة في ذلك [يعني الجرح والتعديل] غلو واسراف بالغ).
قلت: ما أبعد هذا الوصف عن تلك الكتب، وإنما الغلو والاسراف البالغ واقع في قوله هذا وفي أقوال له كثيرة مبثوثة في بطون مؤلفاته وفي حواشيه على كتب الناس؛ وحق لأهل الحديث أن يتمثل متمثلهم في مثل هذا المقام بقول من قال:
ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي****أنا الثريا وذانِ الشيب والهرمُ
وقال بعض الباحثين المعاصرين في رد له على بعض بحوث الشيخ عبد الفتاح ابو غدة: «إن العلامة الشيخ محمد زاهد الكوثري في كتابه (تأنيب الخطيب) قد جعل البخاري وأبا حاتم وأبا زرعة والعقيلي وابن حبان وابن عدي والدارقطني وعشرات النقاد الآخرين جعلهم كلهم متعصبين على أبي حنيفة ومتعنتين في الجرح والتعديل، وما ذلك إلا لاجتماعهم على تضعيف أبي حنيفة رحمه الله في رواية الحديث.
وفضيلة الباحث حفظه الله جعل [يعني في تعليقه على الرفع والتكميل] الحافظ ابن عدي صاحب دعوى باطلة لأنه قال عن [الأصح: في] أبي حنيفة: لا يصح في جملة ما روى إلا بضعة عشر حديثاً؛ وراح يستدل على رده تلك الدعوى الباطلة بأدلة أوهى من خيوط العناكب، من أبرزها أن أبا حنيفة له سبعة عشر مسنداً!
¥