فبرزَ فيه وكان من أهلِهِ ومن المُعوَّلِ عليهم فيه أمثال: الإمام الفقيه والأصولي محمد بن محمد الغزالي؛والإمام الفقية أبو إسحاق الشيرازي؛ وشهابُ الدِّين الإمام القرافي الفقيه المالكي المعروف؛والفقيه المفسِّر أبو المظفر السمعاني،والمُحدِّث المُدِّقق الإمام ابن دقيق العيد؛وشيخ الإسلام المُحققِّ الكبير أبو العباس بنُ تيّميَّةَ؛ وتلميذه الإمام العلاّمة ابن القيم والإمامُ المُحققِّ الشاطبي شيخُ المقاصد كلُّ أولئك وغيرهم اشتغلوا بهذا العلم وألفوا فيه ونشروه وعلموه؛ وماذاك إلا لعلمهم ووقفوهم على أهميته وبالغِ أثره.
قال الشيخ الإمام محمد العثيمين رحمه الله في مختصره الأصولي "الأصول من علم الأصول ": {فائدتُه: التَّمَكُّن من حصول قدرة يستطيع بها ـ أي الفقيه ـ استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها على أسس سليمة، وأول من جمعه كفنٍ مستقل الإمام الشافعي محمد بن إدريس رحمه الله، ثم تابعه العلماء في ذلك، فألفوا فيه التآليف المتنوعة، ما بين منثور، ومنظوم، ومختصر، ومبسوط حتى صار فنًّا مستقلًّا، له كيانه، ومميزاته}
فمن يقول بتلك الدعوى الغريبة؛ فإنَّ دعواه تلك يلزمُ منها لوازم باطلة كثيرة منها: اتهامُ هؤلاء الأكابر من علماء السلف والخلف بأنهم اشتغلوا بما لا فائدة فيه وأضاعوا وقتهم بما لاطائل منه؛وأدخلوا على المسلمين علوماً لا جدوى منها!
فهل يرضى مسلم بله طالبُ علم بهذا اللازم الفاسد؟
وقبل الشروع في بيان شذرات من فوائد هذا العلم وثماره؛ فإنه ومن المناسب أن أذكر تعريف " علم أصول الفقه " فالحكم على الأشياء فرعٌ عن تصورها.
ومن التعاريف المشهورةِ قولهم أن أصول الفقه هو: (معرفةُ دلائل الفقه إجمالاً وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد)
ومن تأمّل في التعريف ظهرَ له وبكلِّ وضوحٍ غرضُ هذا العلم وثمرته؛ولكن ما بالك بِمَنْ لو سألتَهُ عن التعريفِ لم يعرفْ! فكيف بفهمهِ وسبرِ أغواره؟
فموضوعاتُ هذا العلم الرئيسة: معرفة مصادر التشريع ثم معرفة كيفية الاستفادة منها " قواعد الاستنباط " ومعرفة حال المستفيد (وهو المُجتهِد؛ والمُجتَهد فيه ومتى يجوز الاجتهاد ومتى لايجوز،وشروط المجتهد وضوابط الاجتهاد)
واليك ـ رعاك الله ـ شذراتٌ من فوائد هذا العلم تُنبئك عن فضلهِ وأثرهِ وثمرتِه؛ ومنها:
1ـ أن هذا العلم العزيز هو المعني بقواعد تفسير النصوص وفهمها الفهم الصحيح السليم.
فبدون هذا القواعد كيف يستطيع الفقيه وغيره فهمَ النصوص؟ والنصوص ـ كما يعلم أهل العلم ـ ليست على درجةٍ واحدةٍ من الأسلوب والوضوح بالنسبة للناظر والمجتهد ففيها: العامُ والخاص؛ والمطلقُ والمقيَّد؛ وفيها النصُ والظاهر؛ ومنها المحكم والمتشابه؛وهناك نصوصٌ قطعية الثبوت والدلالة وأخرى ظنية التثبوت والدلالة ولكلٍّ طريقةٌ في التعامل والتحليل.
يقول الإمام القرافي في مقدمة كتابه العظيم " الفروق ": ( .. فإن الشريعةَ المحمدية زاد اللهُ تعالى منارها شرفاً اشتملت على أصول وفروع؛ وأصولها قسمان أحدهما: المسمى بأصول الفقه وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة؛ وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح ونحو: الأمر للوجوب والنهي للتحريم .. وماخرجَ عن هذا النمط إلا كون القياس حجة وخبر الواحد وصفات المجتهدين .. )
وهذه القواعدُ وسيلةٌ لفهمِ كتابِ الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ ولولا هذه القواعد العلمية لأصبحت نصوصُ الشرع عُرضةً لكلِّ جاهلٍ أو متعالم أو مغرض أن يُفسِّرها كيف يشاء وبحسب ما يُمليه عليه هواه!
ومن أمثلة ذلك: كيف نستطيع فهم محل الأمر في كتاب الله؛دون معرفة الصيغ التي تفيدُ الأمر؛ وهي صيغٌ مختلفةٌ لا تقتصرُ على صيغة " إفعل " فقط،فمثلاً: قوله تعالى {والمطلقاتُ يتربصن بأنفُسهنَّ ثلاثةُ قروء} فهو من حيث الصيغة " خبر " وليس " طلب " ولكن الحكم المستنبط من هذا النص هو: وجوب العدة على المطلقة فهو أمرٌ خرج مخرج الخبر.
ومن صيغ الأمر التي نصّ عليها الأصوليون: المضارع المجزوم بلام الأمر: مثل قوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق}.
اسم فعل الأمر: مثل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم}.
المصدر النائب عن فعل الأمر: مثل قوله تعالى: {فضرب الرقاب}.
¥