تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إن ذلك التنسيق بين الوحي والواقع ليس بالأمر الهين، ولا يقدر عليه إلا مَن رزقه الله عقلاً نيرا وفكرا رصينا ورأيا حصيفا، متمتعا بحظ وافر من الفهم والإدراك والتمييز والإلحاق والتقعيد والإدراج والمقارنة والترجيح والاستقراء، وغير ذلك مما يعد شروطا أساسية لفهم التكليف وفعله في الواقع.

والعنصر الثالث في إعمال المنهج المقاصدي المكلف، إذ هو محور عملية الاجتهاد ومدارها، فالنصوص ما جاءت إلا للمكلف، والواقع ما حدث إلا به، والذي يهمنا من المكلف عقله الذي يلائم بين مدلول النص وحوادث الواقع، وهو يشمل عقل المكلف العادي فيما كلف به من خطاب شرعي، أمرًا ونهيًا، يتعلق بجملة الأوامر والنواهي التي يجب عليه فهمها وفعلها وأخذها من كتب العلم وكلام الفقهاء، ويشمل كذلك المكلف بالاجتهاد والاستنباط والمأمور ببيان أحكام الشريعة في حوادث عصره ونوازل مجتمعه ..

فالشرع ما نزل إلا ليخاطب عقل المكلف، ويجعله مناطا لتكاليفه وأحكامه، تحملا وأداء، فهما وتنزيلا.

والعقل المراد والمقصود بالكلام هنا ليس عموم أي عقل، بل هو العقل الإسلامي الاجتهادي الذي هو أداة التنسيق والربط بين الوحي الثابت والواقع المتغير، والذي يتحرك في دائرة الشرع وضوابطه و يتخذ من ذلك منهجًا له في تحركه وفعله واستنتاجه وحكمه، بعيدا عن الهوى والتلذذ والتشهي لتكون عملية التنزيل لفهمه الديني قائمة بالأساس على الاستبصار بالوحي لا الانفصال عن بصائر التوجيه الرباني ..

إن العقل الإسلامي الذي يحيط بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها وطرق إثباتها، ويكون على بينة من اختلاف مراتبها، ويفهم معانيها ووجوه دلالات تلك المدارك على مدلولاتها، ويستنبط مراميها وأسرارها ومقاصدها، هو كذلك يباشر الوقائع والحوادث ويفهم حقيقتها وطبيعتها ويفقه ملابساتها وحيثياتها وظروفها، ويقارع صعاب النوازل ويعمل على تقويم اعوجاج ملتويات المسائل، ثم بعد ذلك يلجأ إلى موازنة الوحي بالوقائع، و يتحقق من وجود مناط الحكم الشرعي الذي تحصّل في الذهن في الواقعة المسؤول عنها لينطبق عليها الحكم، فالشريعة الإسلامية لم تنص على حكم كل جزئية بخصوصها وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة، تتناول أعداداً لا تنحصر من الوقائع، ولكل واقعة معيّنة خصوصية ليست في غيرها [23] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/editpost.php?do=editpost&postid=998688#_ftn23)، قال الشاطبي: "وليس ما به الامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق ولا هو طردي بإطلاق، بل ذلك منقسم إلى الضربين وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب حتى يحقق تحت أي دليل تدخل ... ولا يتعين ذلك إلا بنظر واجتهاد ... فإذا تعين له قسمها، تحقق له مناط الحكم فأجراه عليه ... ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن، لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك منزلات على أفعال مطلقات كذلك، والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة، فلا يكون الحكم واقعا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام، وقد يكون ذلك سهلا وقد لا يكون وكله اجتهاد" [24] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/editpost.php?do=editpost&postid=998688#_ftn24).

والذي يتمكن من كل هذا كما قال ابن القيم هو المحصل (لنوعين من الفهم، أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما، و الثاني فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر ... فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله) [25] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/editpost.php?do=editpost&postid=998688#_ftn25).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير