[مقالات (2): مع الرافعي تحت راية القرآن]
ـ[عصام البشير]ــــــــ[14 - 10 - 08, 12:04 ص]ـ
المقالة الثانية: مع الرافعي تحت راية القرآن
قراءة في كتاب (تحت راية القرآن – المعركة بين القديم والجديد)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد
فهذا كتاب جمع محاسن الأدب، ودقة البحث، وهيبة الغيرة على الدين والخلق. يأخذك في ركابه، فتنتقل بين ظلال هذه الثلاثة، منبهرا بجمال الأولى، مذعنا لإتقان الثانية، مطمئنا إلى سلامة القصد والسبيل في الثالثة.
ليس هذا كتابا يتغنى بجمال الطبيعة، أو يصدح بتغاريد الحب، أو ينشد حداء للعاشقين، ولكنه مع ذلك آية في البلاغة، وغاية في نصاعة اللفظ، ورقة المعاني.
ثم إنه أيضا ليس كتابا يبحث ويناقش، ويعلل ويدرس، ويحقق ويحرر، ولكنه مع ذلك يدلك بالإشارة اليسيرة على مفاتيح ذهبية تحل بها إشكالات المباحث العلمية الدقيقة، ويرشدك بالطرفة الباسمة، والكلمة العابرة إلى بصيص النور في ضباب الإظلام القاتم.
ثم إنه بعد ذلك كله ليس كتابا شرعيا يفتي ويربط الأحكام بأدلتها في القرآن والسنة، ويعظ القلوب الغافلة عما يراد بها من مروق وانحلال، ولكنه مع ذلك ينضح بالغيرة الصافية على محارم الله أن ينتهكها سدنة الفكر الغربي المنحل؛ وتشرق في جنباته أنوار الحب الصادق لهذا الدين، وللغته التي لا قوام له إلا بها. أو قل إن شئت: هو جهاد تحت راية القرآن، يرجع فيه مؤلفه إلى دين متين، وإيمان راسخ.
وإذا كان لبّ الكتاب تلك المقالات التي دمغ بها الرافعي رحمه الله أستاذَ الجامعة المفتون بحضارة الغرب (طه حسين)، فإنه في مجمله ميدان معركة صاخبة طاحنة بين القديم والجديد، وبين أنصار هذا وأنصار ذاك.
والرافعي – عليه رحمة الله – لا يستنكف أن يُنبز بأنه من أنصار القديم، بل يثبت ذلك ويعتز به، ثم يسأل سؤال العارف عن ماهية هذا الجديد، وعن حقيقة ما يريده أنصاره والدعاة إليه؟
وعندما يمحص الرافعي حقيقة هذه الدعوة، ويسبر عمقها، فإنها لا تلبث أن تلقي له مقاليد أمرها في صورة أصلين جامعين يجهد أنصار الجديد أن يستروا نتنهما الخانق بقطرات من ماء الزهر يرشون بها ألفاظهم المتعفنة.
وأول هذين الأصلين أن أنصار الجديد دعاة هدم، ثم هدم ثم هدم. وليس لهم من عظمة البناء نصيب. فهم يقفزون كما تقفز الجرادة العرجاء، من هدم أصول اللغة، إلى هدم أساليب البيان، إلى هدم تراث الأمة، إلى هدم هيبة الدين في النفوس، بدعاوى باردة، وتكلفات سمجة.
فبعضهم يصرح للرافعي - رحمه الله – بأنه لو ترك في أسلوبه الجملة القرآنية والحديث الشريف لكان أجدى عليه، ولصار في الأدب مذهبا وحده. وهل هذا إلا صريح الهدم لأساليب الفصاحة، بحجة التجديد فيها؟ وكيف يكون التجديد في الأسلوب بقطع الوشيجة بأزكى أسلوب وأحلاه وأرفعه في مدارج الجمال؟
وآخر – وهو الاستاذ المأفون – يصرح بإنكار الشعر الجاهلي، ورد معظمه، ويتعلق في ذلك بأوهى من خيوط العناكب، وهو مع ذلك يظنها حبالا من البراهين متينة، أو قل: بهذا يريد أن يقنع طلبته المساكين. وهل تقوم للعربية قائمة إذا انهدم هذا الصرح المنيع، وقام في موضعه خراب كئيب قد اختلطت فيه أحجارٌ من أساطير الغربيين وخرافات أسلافهم الوثنيين، بشيء من الملاط المنسوب إلى هؤلاء العصريين، لا يتعلق من العربية بنسب، ولا يمت إليها بسبب، إلا كما تتعلق سمادير السكران بعلم الذرة، أو خيالات الحالم بقواعد الفيزياء.
وذاك الدعي نفسه، يخرج مكنون صدره في كتابه القذر، فيصرح بإنكار ما لا ينكره إلا كافر بالقرآن العظيم، ويعلن ضرورة التجرد من الدين عند البحث العلمي، ولا يدع شيئا من مقدسات المسلمين، إلا تعرض لها برأيه الفائل، وفكره المريض، تشكيكا بلا دليل، وتمردا بشبهة الباطل على سلطة الحق المبين.
ثم إن هذا الهدم، لا يأتي بعده شيء من البناء، ولو أن يكون كوخا من قصب، يعوض به هؤلاء تلك القصور المنيفة التي يسعون إلى جعلها خرابا يبابا. ولذا يخاطب الرافعي هؤلاء الأدعياء فيقول (ص 53):
(لقد سئمت نفوسنا هذه الدعاوى الفارغة، فاعملوا ثم سموا عملكم، وصيدوا الدب ثم بيعوا للناس جلده، فلعلكم وأنتم تبيعون فروة دب لا تحصلون إلا على جلدة هرة).
¥