تلك أول مرة أسمع فيها بمثل هذه الميتة الشنعاء في مصر، وهذا أول يوم سجلت فيه يد الدهر في جريدة مصائبنا ورزاياها هذا الشقاء الجديد.
لم تمت هذه المسكينة في مغارة منقطعة أو بيداء مجهل؛ فنفزع في أمرها إلى قضاء الله وقدره كما نفعل في جميع حوادث الكون التي لا حول لنا فيها ولا حيلة، بل ماتت بين سمع الناس وبصرهم، وفي ملتقى غاديهم برائحهم، ولا بد أنها مرت قبل موتها بكثير من المنازل تطرقها فلم تجد من يمد إليها يده بلقمة واحدة تسد بها جوعتها، فما أقسى قلب الإنسان، وما أبعد الرحمة من فؤاده، وما أقدره على الوقوف موقف الثبات والصبر أمام مشاهد البؤس ومواقف الشقاء.
لم ذهبت البائسة المسكينة إلى جبل المقطم في ساعتها الأخيرة؟ لعلها ظنت أن الصخر ألين من الإنسان فذهبت إليه تبثه شكواها، أو أن الوحش أقرب منه رحمة فجاءته تستجديه فضلة طعامه …"
نموذج للمقال الوصفي:
(الرافعي تحت عنوان " موت أم ")
"رجعت من الجنازة بعد أن غبرت قدمي ساعة في الطريق التي ترابها تراب وأشعة. وكانت في النعش لؤلؤة آدمية محطمة، هي زوجة صديق طحطحتها الأمراض، ففرقته بن علل الموت. وكان قلبها يحييها، فأخذ يهلكها حتى دنا أن يقضى عليها، وحمها الله فقضى فيها قضاءه. ومن ذا الذي مات له مريض بالقلب ولم يره من قلبه في علة، كالعصفورة التي تهتلك تحت عيني ثعبان سلط عليها سموم عينيه.
كانت المسكينة في الهامسة والعشرين من سنها، أما في قلبها ففي الثمانين، أو يفوق ذلك. هي في سن الشباب وهو متهدم في سن الموت.
وكانت فاضلة تقية صالحة، لم تتعلم ولكن علمتها التقوى الفضيلة، وأكمل النساء عندي ليست هي التي ملأت عينيها من الكتب. فهي تنظر إلى الحياة نظرات تحل مشاكل وتخلق مشاكل، ولكنها تلك التي تنظر إلى الدنيا بعين متلألئة بنور الإيمان، تقرأ في كل شيء معناه السماوي، فتؤمن بأحزانها وأفراحها معاً، وتأخذ ما تعطي من يد خالقها رحمة معروفة، أو رحمة مجهولة، وهذه عندي امرأة … وتكون الزوجة، ومعناها القوة المسعدة. وتصير الأم ومعناها التكملة الإلهية لصغارها وزوجها ونفسها".
نموذج أخير للمقال:
(أحمد حسن الزيات تحت عنوان " الإسلام دين القوة ")
"الإسلام دين القوة. وهل في ذلك شك؟ شارعه هو الجبار ذو القوة المتين، ومبلغه هو الجبار ذو القوة المتين، ومبلغه محمد الصبار ذو العزيمة الأمين، وكتابه هو القرآن الذي تحدى كل لسان وأعجز، ولسانه هو العربي الذي أخرس كل لسان وأبان، وقواده الخالديون هم الذين أخضعوا لسيوفهم رقاب كسرى وقيصر، وخلفاؤه العمريون هم الذين رفعوا عروشهم على نواصي الشرق والغرب. فمن لم يكن قوي البأس، قوي النفس، قوي الإرادة،قوي العدة كان مسلماً من غير إسلام، وعربياً من غير عروبة.
الإسلام قوة في الرأس، وقوة في اللسان، وقوة في اليد، وقوة في الروح.
هو قوة في الرأس؛ لأنه يفرض على العقل توحيد الله بالحجة، وتصحيح الشرع بالدليل، وتوسيع النص بالرأي، وتعميق الإيمان بالتفكر.
وهو قوة في اللسان؛ لأن البلاغة هي معجزته وأداته. والبلاغة قوة في الفكرة، وقوة في العاطفة، وقوة في العبارة.
وهو قوة في اليد؛ لأن موحيه ـ وهو الحكيم الخبيرـ قد علم أن العقل بسلطانه واللسان ببيانه لا يغنيان عن الحق شيئاً إذا أظلم الحس، وتحكمت النفس، وعميت البصيرة. فجعل من قوة العضل ذائداً عن كلمته، وداعياً إلى حقه، ومنفذاً لحكمه، ومؤيداً لشرعه. كتب على المسلمين القتال في سبيل دنيهم ودينه، وفرض عليهم إعداد العدة والخيل إرهاباً لعدوهم وعدوه، وأمرهم أن يقابلوا اعتداء المعتدين بمثله. ولكن القوة التي يأمر بها الإسلام هي قوة الحكمة والرحمة والعدل، لا قوة السفه والقسوة أو الجور، فهي قوة فيها قوتان قوة تهاجم البغي والعدوان في الناس، وقوة تدافع الأثرة والطغيان في النفس.
والإسلام بعد ذلك قوة في الروح؛ لأنه يمحص جوهرها بالصيام والارتياض والتأمل.
ـ[إسماعيل سعد]ــــــــ[02 - 11 - 08, 11:25 م]ـ
جزاكم الله خيرا على الإفادة.