ولما كان قوامها الإيجاز مع البراعة والقوة والروعة والبيان والفصاحة، ذاعت في العصر العباسي الأول ولكنها حين مال النثر إلى الأطناب والصنعة والإطالة ضعف شأنها، مع ضعف الخلفاء وسلطانهم.
ولو رجعنا إلى هذه التوقيعات –رجعة سريعة لاستعراضها- فإننا نجد أن الجمل فيها تختلف في طريقة الأداء مثل "شكوت فأشكيناك" و"أنبتتهم الطاعة وحصدتهم المعصية" و"كثر شاكوك وقل شاكروك"
ففي القسم الأول ترى المنصور يخبر عامله بأنه تلقى شكواه وأزال سببها، والرشيد يعلن رغبته بمعاقبة البرامكة، والمأمون يذكر عامله ما بلغه من كثرة شاكيه، وقلة الراضين عنه، وهكذا نجد جملة تحمل خبراً من الأخبار وتسمى جملاً خبرية.
أما في القسم الثاني، فنجد جملتين من نوع آخر فقائلهما، لم يرد بهما أخباراً، وإنما يطلب منهما شيئاً، ولهذا تسمى كل منهما جملاً إنشائية، مثل: إما اعتدلت وإما اعتزلت .. وطهر عسكرك من الفساد، وهكذا وبهذا نرى الكلام قد يكون خبراً أو إنشاء".
أما ما جاء منه اقتباساً من القرآن الكريم، فهو إقرار لحكم الله وإذعان لطاعته وابتغاء مرضاته، وأنه الحل الأمثل للمسألة المطروحة "ليس كمثله شيء" في أسلوبه وبلاغته.
مثل هذا الأدب لا يوجد في لغة غير عربية.
جاء في مقدمة الدكتور عبد الكريم اليافي لكتابه "دراسات فنية في الأدب العربي" ما نصه: "أما مكانة اللغة العربية بين اللغات فينبغي أن نعرف أنه لا يوجد في القديم ولا في الحديث لغة تضاهيها في المزايا، وتحاكيها في الخصائص والفضائل، وليس كلامنا من وحي العاطفة، وإن كنا نجل العاطفة، ولا هو من قبيل الفخار ولا الحماسة، وإن أصبحنا سائغين لغرض التشيع في هذا العصر، المضطرب البيان- ولكن كلامنا مبني على تلمس الصفات الموضوعية، فاللغة العربية من أقدم اللغات الحية، بل وهي أقدمها على الإطلاق، وقدمها هذا يحبوها تراثاً ثرياً، ويهبها مرونة واسعة، ويزودها بتجارب كثيرة، ولقد نشأت وعاشت واكتملت وعمرت واستمرت الأحقاب الطوال، وهي لا تزال في ريعان القوة والنمو، على رغم ما قد تصادفه من صعاب، وما ذلك إلا لأنها تحوي فضائل ضمنية ليست للغات ماتت وانقرضت كالفارسية واليونانية والعبرانية".
ومثل هذا الإيجاز الذي نجده في التوقيعات لا يمكن أن يدون بلغة في العالم بهذا الجمال والروعة في البيان، والإيجاز، وجمال التعبير، واتساع المعاني مثلما دوّن باللغة العربية، بل إن خاصية تتميز بها هذه اللغة أنها لغة القرآن الكريم، لغة الصون والاستمرار وإلى الأبد، مهما طال أمد هذه الدنيا أو قصر مصداقاً لقوله تعالى:
"إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" الحجر 9
وخلود القرآن الكريم –الذي تكفّله الله- يعني خلود اللغة العربية، بل إنني أجزم يقيناً أنه لا يمكن ترجمته إلى لغة أخرى، وما ظهر من ترجمات للقرآن الكريم هي ترجمات لتفسيرات ومعان تضمنتها الآيات الكريمة والتي معانيها مطلقة، محكمة، تتسع لعلم الأولين والآخرين، وأني لأحد في الدنيا أن يستوعب علم الأولين والآخرين؟ سوى رب العالمين.
"فلا أقسم بالخنس، الجوار الكنس، والليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفّس" التكوير 15 - 18.
"هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهن" البقرة 187.
أتحدى أي لغة في العالم تستطيع أن تترجم مثل هذه الآيات بالبلاغة والبيان والفصاحة والروعة التي جاء بها القرآن الكريم، الذي نزل بلسان عربي مبين.
المصدر: http://www.odabasham.net/show.php?sid=7090
ـ[أبو خالد عوض]ــــــــ[30 - 05 - 09, 04:05 م]ـ
بورك لنا في لغتنا بحرها زخار وأدبها مغوار
لسانها قرآني وبلاغها محمدي
اللهم أدمها نعمة واحفظها من الزوال ..