فكثرة الشكاوي تدل على كثرة المظالم للرعية، وكما أن المبايعة علامة الرضى، فإن عدم الرضى يدل على عدم مبايعة الناس وموافقتهم لذلك الوالي، ومع كثيرة الشكاوي قل عدد المبايعين والراضين عن ذلك الحاكم، فجاء القول الفصل من أمير المؤمنين "كثر شاكوك .. وقل شاكروك، فإما اعتدلت، وأما اعتزلت".
فهذه إشارة من أمير المؤمنين، الخليفة المأمون إلى عامله، وتحذير له بأن يعتدل، أي يقيم العدل، أو عليه أن يعتزل ويترك الحكم، فوضعه أمام اختيارين إما الاعتدال أو الاعتزال، مصداقاً لقوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" المائدة 44
"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" المائدة 45
"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" المائدة 47
وقوله تعالى: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم إنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون" صدق الله العظيم. المائدة 49.
8 - القدرة تذهب الحفيظة
ووقع الخليفة المأمون في كتاب لعمه "إبراهيم بن المهدي" الذي رجع إلى طاعته بعد أن أعلن العصيان عليه، وطمع في ولاية خراسان، بعد مقتل أبي مسلم الخراساني، فخاف أن يلقى مصير أبي مسلم، إن تمادى في غيه وعصيانه، فكتب إلى ابن أخيه أمير المؤمنين.
"ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون" المائدة 56.
ثم أعلن توبته.
فكتب إليه المأمون "القدرة تذهب الحفيظة" والندم جزء من التوبة وبينهما عفو الله" .. ثم طلب منه أن يتلو هذه الآية: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، فإخوانكم في الدين، ونفصل الآيات لقوم يعلمون" صدق الله العظيم. التوبة 11
9 - "وكان حقاً علينا نصر المؤمنين"
وقع الخليفة المأمون كتاباً لوزيره الفضل بن سهل، في قصة متظلم بقوله:
"وكان حقاً علينا نصر المؤمنين" الروم 47
وهذا الاقتباس من القرآن الكريم يدل على سعة في العلم، والتفقه في الدين .. كما ويدل على أن الخليفة في العصور الإسلامية الذهبية، كان واعياً لكل ما يدور في بلاده، فلا يترك الحبل على غاربه، ولا يتقوقع داخل قصره، مهملاً شؤون دولته وتاركاً لبطانته أن تسيد وتميد في البلاد متمثلاً بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه "والله لو أن بغلة في أرض العراق عثرتْ، لسئلت عنها أمام الله".
10 - "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين".
دخلت مصر –لأول مرة في حياتي- عام 1970 - وكانت مصر آنذاك ولغاية الآن كنانة الله" وقد دخلتها لإكمال دراستي العليا هناك، فلما وصلت مطار القاهرة، وإذا بأعلى بوابة مدخل المطار، مكتوب عليها: "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين"
وتذكرت أنها الآية رقم 99 من سورة يوسف، والتي تحدثت عن قصة النبي يوسف مع إخوته، المعروفة بتفاصيلها لكل مسلم.
إنها اقتباس من القرآن الكريم، تحكي قصة التحاق النبي يعقوب مع أولاده جميعهم إلى ولده يوسف مصداقاً لقوله تعالى: "فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين" يوسف 99و
هذه العبارة وإن كانت اقتباساً لآية من القرآن الكريم إلا أنها تدل على أن مصر أرض الأمان والسلام والضيافة، سائلاً المولى العلي القدير أن يرد لنا كنانة الله عزيزة قوية لإعلاء الإسلام والمسلمين.
التعليق الأدبي على هذه التوقيعات
رأيت أن هذه التوقيعات تعتمد على الإيجاز الذي يتميز بالتركيز وقوة العبارة، وجمال التصوير، ولطف الإشارة، وروعة البيان، وبلاغة التعبير، وفصاحة اللسان، وأكثر ما يبهر العقل، بياناً وروعة وجمالاً وفصاحة وبلاغة، هو ما كان مقتبساً من القرآن الكريم.
وكانت هذه التوقيعات تذيع ويتناقلها الناس، وكأنها مبادئ أخلاقية تلزم وتلهم، وتعطي العبر والمثل العليا والقيم، بأجل معانيها، وأصدق أحاسيسها ومشاعرها.
ومن أجل ذيوعها وسرعة انتشارها وتأثيرها في السامع والقارئ حرص كاتبوها على الإجادة فيها، وتباروا في بلوغ أقصى الغاية منها، ولاشتهر كثير منهم بالبراعة في كتابتها، وكان من بينهم: أمثال المنصور والمهدي والرشيد والمأمون، وكثير من وزراء الدولة وقادتها.
¥