قال الشيخ في شرحه: (أصلُ الضَّرَعِ – بفتح الراء – الذل والتخشع؛ يقال: ضرع له، وإليه: استكان، وخشعَ؛ فالمراد هنا: إن لم يمنع نفسه عن اللؤم، ويغلبها) قلتُ [القائل السيد صقر]: والصواب: إن هو لم يَضرَح عن اللؤم نفسَه. جاء في اللسان ... " الضرح: التنحية. وقد ضرحَه: أي نحَّاه، ودفعَه) ا. هـ.
قلتُ:
بل الصواب ما ذكرَه الشيخُ شاكر. وأما ما ذكرَه السيد صقر يزعمُ أنه هو الصواب، فمردود من ثلاثة أوجهٍ:
الأول: أنَّ لفظَ " الضَّرْح " لا يصلح في هذا الموضعِ، لأن معناه عندَ التحقيقِ ليس التنحية كما نقلَ؛ إذ التنحية إبعادُ الأشياء الكبيرة الجِرم برفقٍ؛ و إنما (الضَّرْح) إبعادُ الأشياء الصغيرة الجِرم بعنفٍ؛ فاللفظان يشتركان كما ترى في جنسِ (الإبعاد)؛ ولكنهما يفترقانِ في ما وراءَه. يشهدُ لهذا قولُ الشاعرِ:
فلما أن أتين على أُضاخٍ ... ضرحْنَ حصاه أشتاتًا عِزِِينا
وقول الفرزدق:
كأنَّ نَجاء أرجلِهنَّ لمَّا ... ضرحْنَ المروَ يقتدحُ الشَّرارا
وقولُ صاحب (العينِ) – وقد أبانَ -: (والضَّرْح: الرمي بالشيءِ)؛ فهو إذن بمعنى الرمي، أو الطرحِ، وليس بمعنى التنحية، والدفعِ. والذي في (اللسان) منقولٌ عن (الصحاح)، ولم يحسن صاحب (الصحاح) الإبانةَ عن المعنَى كما تستعملُه العربُ. ومتى ثبتَ هذا، أوجب لنا العلمَ بأنه لا يقال: (ضرح الإنسان نفسَه عن اللؤم)، كما لا يقال: (رمَى الإنسان نفسَه عن اللؤم) لا من جهة الحقيقة، ولا من جهة المجاز.
الثاني: أنَّا لو صححنا رواية (يضرَح) كما رأى السيد صقر، لكان المعنى: إذا المرء لم يجانب اللؤمَ، لم يستطع أن ينال ثناء الناس عليه. وهذا معنًى قريبٌ باردٌ. وإنما أرادَ الشاعر: أنه إذا لم يهِنِ المرء نفسَه، ويذلَّها، ويصبِّرها عن مقارفة أسباب اللؤمِ، لم يجِد له مثنيًا. وهذا معنًى معروفٌ عندَ العربِ، منه قولُ الخنساء:
نهينُ النفوسَ، وهونُ النفو ... سِ يومَ الكريهة أبقى لها
وقولُ الآخرِ:
أهينُ لهم نفسي لأكرمَها بهم ... ولن تكرم النفس التي لا تهينها
وقد أخذ دكينٌ بيتَه من قول السموءل، أو عبد الملك الحارثي:
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمَها ... فليس إلى حسن الثناء سبيلُ
وضيمُ النفس، وإهانتها متقاربان. وفي هذا مرجِّح لرواية (يُضرِع).
الثالث: أنَّ أبا بكر الدينوريّ (ت 333 هـ) روى هذا البيتَ في «المجالسة وجواهر العلم 4/ 316» برواية (يُضرِع). ويظاهرُه أيضًا ما رواه ابن قتيبة نفسُه في «عيون الأخبار 3/ 59»؛ فإنها فيه (يصرع)؛ فلعله وقعَ في الحرفِ تصحيفٌ من النُسَّاخِ. وإنما كان ظهيرًا للرواية التي صححناها، لأنه دال على أن الحرف الأخير لا يخرج عن أن يكون عينًا، أو غينًا؛ ولا سيَّما أن التقارب الذي بينَهما أدنى من التقارب بينهما وبين الحاء؛ على أنه لم يروِ هذا اللفظَ بالحاءِ أحدٌ من العلماء في ما أعلمُ؛ وإنما هو اجتهاد من السيد صقر رحمه الله.
وتفسير الشيخ شاكر لـ (أضرع) ليس مستقيمًا كلَّ الاستقامة؛ فإنه ذكر أن (الضَّرع) الاستكانة، والخشوع، ثم عدل عن هذا في التفسير؛ فقال: (فالمراد هنا: إن لم يمنع نفسَه عن اللؤم، ويغلبها). والصواب: (إن لم يُذِلَّ نفسَه، عن اللؤم) أي: (مباعدًا لها عن اللؤم) كما تقدَّم. ويصدِّق ذلك قول العرب في المثل: (الحمَّى أضرعتني لك)؛ أي: أذلّتني لك.
فهذه بعضُ التعقيبات على بعض نقَداتِه لم أستحِبَّ أن أطويَها؛ يدفعُني إلى ذلك ما قاله السيد صقر: (وإني على نهجي الذي انتهجتُ منذ أول كتابٍ نشرتُ، أدعو النُقَّادَ إلى إظهاري على أوهامي فيها، وتبيين ما دقَّ عن فهمي من معانيها، أو ندَّ عن نظري من مبانيها، وفاءً بحقِّ العلم عليهم، وأداءً لحقّ النصيحة فيه).
والسيد صقر محقِّقٌ ثبت، وقارئٌ ناقدٌ؛ فإن يكن أخطأ، فقد أخطأ مَن هو أعلمُ منه، وإن أكن أصبتُ، فقد أصابَ من هو أجهلُ منِّي. ولا أدَّعي الصوابَ في جميع ما ذكرتُ. وهذه القضايا التي نخوضُ فيها ليست مِلكًا له، ولا لي؛ وإنما هي مِلكٌ للأمّة كلِّها، لكلِّ فردٍ من الحقِّ فيها مثلُ ما للآخَرِ.
¥