تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وهنا أجدني محتاجًا إلى تقريرِ أصلينِ لا بدَّ منهما، إليهما يئولُ جميعُ ما ذكرتُ:

الأصلُ الأوَّل:

إذا اختلفت رواياتُ النسَخِ، فأيَّها يختار المحقِّقُ؟

أيختارُ رواية النسخة التي يثِقُ بها؟ وأقصِد الثقةَ التي أوجبَها له ما يُحتكَم إليه في مجال التحقيق من معاييرَ علمية صحيحة.

أم يختارُ الرِّواية التي يستحسنُها ذوقُه، والتي ألِفَها، واعتادَ قراءَتَها في جملة من المصادر؟

لا ريبَ عندي أنّ عليه أن يختارَ رِواية النسخةِ التي يراها أوثقَ، وأصحَّ؛ وإن خالفت الشائعَ، المألوفَ. وليسَ من حقِّه أن يحكِّم رأيَه في ذلكَ، ولا أن يخرجَ عن الاعتداد بغيرِها إلا إذا كان غيرُها أشبهَ بأسلوب المؤلفِ، وطريقةِ أهل عصره، أو أعرفَ في استعمال الكتَّاب، واصطلاحاتِ الفنونِ.

وذلكَ أنَّ عمَلَ المحقِّق ليس إخراجَ الكِتابِ على أصحِّ ما يراهُ هو؛ أي: ليس عمُله الترجيحَ؛ وإنما عمَلُه أن يخرج الكتابَ بالصورة التي أرادها مؤلفُه أيًّا كانت. ولا سبيلَ إلى ذلك عند اختلافِ النسَخِ إلا التعويلُ على أصحِّها في الجملة، وأضبطِها، وأدناها إلى عصر المؤلفِ، من خلال تفحُّصِها، وقراءتها قراءةً دقيقةً، وغيرِ ذلك مما هو معلومٌ لدى المشتغلين بهذا الفنِّ.

ولا يلزَمُ أن تكونَ روايةُ المؤلِّف بعدَ هذا هي الرِّوايةَ التي يراها المحقِّق أصحَّ؛ فقد تكونُ رِواية المؤلفِ رِوايةً مرجوحةً في نظرِه، أو مخالفةً للكثيرِ المعروفِ، ومع ذلك، فلا يسوغُ له أن يختارَ غيرَها، لأن هذا الكتابَ الذي يحقِّقه فوقَ كونِه أمانةً يجِب أداؤُها كما هي، فهو وثيقةٌ، وشاهدٌ على أشياءَ كثيرةٍ، كمذهب المؤلف، وأسلوبه، وعادةِ عصره، وما لا أحصيه؛ فربَّ كلمةٍ يغيِّرها لا يأبه لها هي عند باحثٍ من الباحثينَ ذاتُ شأنٍ، ويمكنُه أن يستنبطَ منها ما يستنبطُ. كما ترَى في احتجاجِ الشيخ أحمد شاكر في (الرسالة) للشافعيِّ بـ (معاني) ونحوِها مثبتةَ الياء في الرفع، والجر، على الجوازِ. ولو أجرَى الشيخ منهجَ الترجيحِ، والحملِ على الشائع المعروفِ، لغيَّر هذه الكلمةَ، وحذفَ الياءَ؛ فكانت تضيع علينا من جرَّاء ذلك هذه الفائدة اللغوية النادرة – وإن كنتُ أخالفُه في الاحتجاج بها لأمور أخرَى -.

ثمَّ إنَّ عِلْم الإنسانِ – وإنْ اجتهدَ - محدود، واطِّلاعه – وإن حاولَ – ضيِّق، ونظرهُ – وإن امتدَّ – قاصِرٌ؛ فلعلّ ما اعتدَّه خطأً، ثم أبطلَه، يكون هو الصوابَ، ولعلَّ ما رآه ضعيفًا، فاستبعدَه، يكونُ هو الرِّوايةَ التي اختارَها المصنِّف. وهذا المنهجُ – أعني منهجَ الإلحاد في التحقيق - حقيقٌ إن نحن أخذنا به أن يقضي على فريقٍ كبيرٍ من نوادر التراثِ، ودقائقِه، وأن يجعلَ كتبَه على صورةٍ واحدةٍ قد يتبيَّن من بعدُ لبعض الباحثينَ أنها غيرُ صحيحةٍ، وأنَّ ما غيَّره المحقِّقون هو الصوابُ.

وأنا أذكرُ مثالينِ لهذا الإقدامِ على التغييرِ:

1 - في (شرح القصائد السبع 23) لأبي بكر الأنباريِّ تصرَف الأستاذ عبد السلام هارون في المتنِ اعتمادًا على فهمِه؛ فأفسدَ المعنَى، وقلبَه؛ حيث قال المصنف: (وقال: الأعراب يروون فيها)؛ فغيرَّها إلى (يروونه) غيرَ ملتفتٍ إلى النسختين المخطوطتين. وشتان ما هما؛ فعلى الوجه الأول يكون المرادُ بهذا هو البيت الآتي، وعلى الوجه الثاني يكون المرادُ بهذا هو البيت السابق. ويدلك على ذلك فوقَ دلالة هاتين النسختين ما في شرحِ المعلقات لأبي جعفر النحاس، والخطيب التبريزيِّ. وكانَ الحقَّ أن يترُك ما في النسختين كما هو، ويشير إلى رأيِه في الحاشية، كما قال هو في «تحقيق النصوص ونشرها 48»: (فليس معنى تحقيق الكتاب أن نلتمس للأسلوب النازل أسلوبًا هو أعلى منه، أو نُحِلّ كلمة صحيحة محلّ أخرى صحيحة بدعوى أن أولاهما أولى بمكانها، أو أجمل، وأوفق ... وقد يقال: كيف نترك ذلك الخطأ يشيع؟ وكيف نعالجه؟ فالجواب أن المحقِّق إن فطِن إلى شيء من ذلك الخطأ، نبّه عليه في الحاشية، أو في آخر الكتاب، وبيَّن وجه الصواب فيه. وبذلك يحقق الأمانة، ويؤدي واجب العلم).

2 - في (غريب الحديث 1/ 120) لإبراهيم الحربيِّ تصرفَ الناشرُ في روايةِ بيت امرئ القيس:

بصبحٍ، وما الإصباح فيك بأمثلِ

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير