أما [قَوْلُ مَنْ قَالَ: الِاسْتِعَاذَةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِرَاءَةِ شَاذٌّ] وهذا القول مَنْسُوبٌ إلَى مَالِكٍ.
واستدلوا بِظَاهِرِ الْآيَةِ {فَإِذَا قَرَأْت الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ}. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ , وَالْفَاءُ هُنَا لِلتَّعْقِيبِ.
قال ابن العربي: انْتَهَى الْعِيُّ بِقَوْمٍ إلَى أَنْ قَالُوا: إنَّ الْقَارِئَ إذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ حِينَئِذٍ يَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ....
وَمِنْ أَغْرَبِ مَا وَجَدْنَاهُ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} الْآيَةَ قَالَ: ذَلِكَ بَعْدَ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ لِمَنْ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ , وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ يَرِدْ بِهِ أَثَرٌ , وَلَا يُعَضِّدُهُ نَظَرٌ ..... وَلَوْ كَانَ هَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ إنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ لَكَانَ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ دَعْوَى عَرِيضَةً لَا تُشْبِهُ أُصُولَ مَالِكٍ , وَلَا فَهْمَهُ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِسِرِّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
قَالَ الجصاص: قَوْلُهُ: {فَإِذَا قَرَأْت الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ} يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ أَنْ تَكُونَ الِاسْتِعَاذَةُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ , كَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا} اهـ.
لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْفَاءَ ... لِلْحَالِ كَمَا يُقَالُ:
إذَا دَخَلْتَ عَلَى السُّلْطَانِ فَتَأَهَّبْ. أَيْ: إذَا أَرَدْتَ الدُّخُولَ عَلَيْهِ فَتَأَهَّبْ.
وَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِطْلَاقِ مِثْلِهِ، وَالْمُرَادُ إذَا أَرَدْت ذَلِكَ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}.
وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ تَسْأَلَهَا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ بَعْدَ سُؤَالٍ مُتَقَدِّمٍ.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}.
كَمَا قَالَ: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ} مَعْنَاهُ , إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ , وَكَقَوْلِهِ: إذَا أَكَلْت فَسَمِّ اللَّهَ ; مَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْت الْأَكْلَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {فَإِذَا قَرَأْت الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ} مَعْنَاهُ: إذَا قَرَأْت فَقَدِّمْ الِاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ , وَحَقِيقَةُ مَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْت الْقِرَاءَةَ فَاسْتَعِذْ.
وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: إذَا قُلْت فَاصْدُقْ وَإِذَا أَحْرَمْت فَاغْتَسِلْ يَعْنِي قَبْلَ الْإِحْرَامِ , وَالْمَعْنَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إذَا أَرَدْت ذَلِكَ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: {فَإِذَا قَرَأْت الْقُرْآنَ} مَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْت قِرَاءَتَهُ.
وهناك قول ثالث وهو:
أن الِاسْتِعَاذَةُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَبَعْدَهَا , ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ، وَنَفَى ابْنُ الْجَزَرِيِّ الصِّحَّةَ عَمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ أَيْضًا.
المسألة الخامسة: التعوذ بعد الاستفتاح وليس قبله
قد جاءت النصوص مصرحة بأن التعوذ بعد دعاء الاستفتاح
فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم [أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ اسْتَفْتَحَ ثُمَّ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ (هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ)].
وَقَالَ الْأَسْوَدُ: رَأَيْت عُمَرَ حِينَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ يَقُولُ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك , وَتَبَارَكَ اسْمُك , وَتَعَالَى جَدُّك , وَلَا إلَه غَيْرُك , ثُمَّ يَتَعَوَّذُ.
المسألة السادسة: هل يتعوذ في الركعة الأولى فقط، أم يتعوذ في كل ركعة؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول وهو الأرجح:
¥