[من بدائع التحرير و التنوير: في قوله تعالى "إنا عرضنا الأمانة على السموات و الأرض" (1)]
ـ[أبو زينب]ــــــــ[16 Feb 2005, 10:16 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
مستعينا بالله و مستجيبا لاقتراح أخينا عبد الرحمن الشهري- وفقه الله - أبدأ الحلقة الأولى من وقفات على إشارات مميزة في التحرير و التنوير. و الله الموفق و عليه التكلان.
و أنطلق مستفتحا بقوله عز و جل: {إِنَّا عَرَضْنَا ?لأَمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَاوَاتِ وَ?لأَرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} الأحزاب 72.
أولا ما قيل في تفسير هذه الآية:
أورد هنا ما ذكره المفسرون من معاني كلمة الأمانة:
فقد فسر الجمهور الأمانة بـ " كل شيء يؤتمن الإنسان عليه من أمر و نهي و شأن دين و دنيا. فالشرع كله أمانة."
و روي عن ابن مسعود قوله: هي أمانات المال (الودائع ... ) و الفرائض.
و عن أبي بن كعب أنها ائتمان المرأة على فرجها.
و عن أبي الدرداء أنها غسل الجنابة.
و عن الضحاك أنها الدين.
كما فسرت الأمانة بالطاعة: لأنها لازمة الوجود كما أن الأمانة لازمة الأداء (الزمخشري)
و فسرها آخرون بالتكليف (و قبول الأوامر و النواهي بشرطها) و سمي أمانة لأن من قصََر فيه فعليه الغرامة و من وفََر فيه فله الكرامة.
و قال آخرون إنها الأعضاء: العين و الأذن و اليد و الرجل و الفرج و اللسان.
و فسرها ابن عجيبة بـ " ما أخذ عليهم (بني آدم) من عهد التوحيد في الغيب بعد الإشهاد لربوبيته ".
وقد ذكر ابن عاشور أن المفسرين - رحمهم الله و إياه - اختلفوا في معنى الأمانة على عشرين قولا , و بعضها متداخل في بعض (من قبيل ذكر الأمثلة الجزئية للمعاني الكلية).
أما قوله تعالى " إنه كان ظلوما جهولا " فقد فُسر بظلم الإنسان نفسه في خطيئته و بجهله بربه أو بجهله بعاقبة ما تحمََل.
ثانيا: ما قاله ابن عاشور:
ركز ابن عاشور على أربعة آراء في معنى الأمانة و هي مرتبة حسب ما بدا لي من ترجيحه هو:
1 - الأمانة هي العقل:وتسميته أمانة تعظيم لشأنه ولأن الأشياء النفيسة تودع عند من يحتفظ بها.
والمعنى: أن الحكمة اقتضت أن يكون الإنسان مستودَع العقل من بين الموجودات العظيمة لأن خلقته مُلائمة لأن يكون عاقلاً فإن العقل يبعث على التغير والانتقال من حال إلى حال ومن مكان إلى غيره، فلو جعل ذلك في سماء من السماوات أو في الأرض أو في جبل من الجبال أو جميعها لكان سبباً في اضطراب العوالم واندكاكها. وأقرب الموجودات التي تحمل العقل أنواع الحيوان ما عدا الإِنسان فلو أودع فيها العقل لما سمحت هيئات أجسامها بمطاوعة ما يأمرها العقل به. فلنفرض أن العقل يسول للفرس أن لا ينتظر علفه أو سومه وأن يخرج إلى حناط يشتري منه علفاً، فإِنه لا يستطيع إفصاحاً ويضيع في الإِفهام ثم لا يتمكن من تسليم العوض بيده إلى فرس غيره. وكذلك إذا كانت معاملته مع أحد من نوع الإنسان.
2 - الأمانة هي الخلافة:وهي تندرج تحت معنى العقل أيضا. فهو يقول: خلافة الله تعالى في الأرض مثل القول في العقل لأن تلك الخلافة ما هيّأ الإِنسان لها إلا العقلُ كما أشار إليه قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] ثم قوله: {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة: 31] فالخلافة في الأرض هي القيام بحفظ عمرانها ووضع الموجودات فيها في مواضعها، واستعمالها فيما استعدّت إليه غرائزها.
3 - الأمانة هي الإيمان أي توحيد الله، وهي العهد الذي أخذه الله على جنس بني آدم وهو الذي في قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} الأعراف [172]. فالمعنى: أن الله أودع في نفوس الناس دلائل الوحدانية فهي ملازمة للفكر البشري فكأنها عهْد عَهِد الله لهم به وكأنه أمانة ائتمنهم عليها لأنه أودعها في الجبلة مُلازِمة لها، وهذه الأمانة لم تودع في السماوات والأرض والجبال لأن هذه الأمانة من قبيل المعارف والمعارف من العلم الذي لا يتصف به إلا من قامت به صفة الحياة لأنها مصححة الإِدراك لمن قامت به، ويناسب هذا المحمل قولُه: {ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} [الأحزاب: 73]، فإن هذين الفريقين خالون من الإِيمان بوحدانية الله.
4 - الأمانة هي ما يؤتمن عليه: وذلك أن الإِنسان مدني بالطبع مخالط لبني جنسه فهو لا يخلو عن ائتمان أو أمانة فكان الإنسان متحملاً لصفة الأمانة بفطرتِه والناس متفاوتون في الوفاء لما ائتمنوا عليه كما في الحديث: " إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة " أي إذا انقرضت الأمانة كان انقراضها علامة على اختلال الفطرة، فكان في جملة الاختلالات المنذرة بدنو الساعة مثل تكوير الشمس وانكدار النجوم ودكّ الجبال.
وفي تفسيره لقوله عز و جل " إنه كان ظلوما جهولا " يبين - رحمه الله - أن هذه جملة اعتراضية و معناها استئناف بياني. ثم ينفي أن تكون هذه الجملة تعليلية لأن تحمل الأمانة لم يكن باختيار الانسان فكيف يعلل بأن حمله الأمانة من أجل ظلمه و جهله. فمعنى {كان ظلوماً جهولاً} أنه قصّر في الوفاء بحق ما تحمله تقصيراً: بعضُه عن عمْد وهو المعبر عنه بوصف ظلوم، وبعضه عن تفريط في الأخذ باسباب الوفاء وهو المعبر عنه بكونه جهولاً، فظلوم مبالغة في الظلم وكذلك جهول مبالغة في الجهل.
وفي الختام أرجو من الإخوة أن يمدوني بنصائحهم في طريقة العرض هذه. كما أطلب منهم أن يضيفوا ما يرونه صالحا أو مخالفا لرأي ابن عاشور من خلال ما علموه من تفاسير أخرى.
و الله أسأل أن ينفعني و إياكم بما علمنا إنه ولي ذلك و القادر عليه.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
¥