تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إذاً نظرية النظم التي ذكرها عبدالقادر الجرجاني في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة -على تفصيل ما فيها- لا شك أنها دالة على صفة من صفات القرآن.

- خامساً:

أنَّ القرآن له سلطان على النفوس، وليس ثَمَّ من كلام البشر ما له سلطان على النفوس في كل الكلام.

ولكن القرآن له سلطان على النفوس بما تميز به من كلام الله - عز وجل -؛ لأنه كلام الله - عز وجل -، مثل ما صار السلطان على ذلك المشرك؛ يعني أنه يُرْغِمْ الأنوف.

وقد كان مَرَّةً أحد الدعاة يخطب بالعربية وفي أثناء خطبته يورد آيات من القرآن العظيم يتلوها، فكانت امرأة كافرة لا تحسن الكلام العربي ولا تعرفه، فلما انتهى الخطيب من خطبته استوقفته -وكانت خطبته في سفينة-، لما انتهى من خطبته استوقفته، وقالت:

كلامك له نمط، وتأتي في كلامك بكلمات مختلفة في رنتها وفي قرعها للأذن عن بقية كلامك، فما هذه الكلمات؟

فقال: هي القرآن.

وهذا لاشك إذا سمعت القرآن تجد له سلطان على النفس ينبئ النفس على الاستسلام له، إلا لمن ركب هواه.

هذا السلطان تجده في أشياء:

~ أولاً:

أنَّ آيات القرآن في السورة الواحدة -كما هو معلوم- لم تُجْعَلْ آيات العقيدة على حِدَا، وآيات الشريعة على حدا؛ الأحكام، وآيات السلوك على حدا، إلى آخره؛ بل الجميع كانت هذه وراء هذه، فآية تخاطب المؤمنين، وآية أخرى تخاطب المنافقين، وآية تخاطب النفس، وآية فيها العقيدة، وآية فيها قصص الماضين، وآية تليها فيها ما سيأتي، وآية فيها الوعد وآية فيها الوعيد، وآية فيها ذكر الجنة وذكر النار، وآية فيها التشريع، وثم يرجع إلى آية أخرى فيها أصل الخلق قصة آدم، وهكذا في تنوع.

وهذا من أسرار السلطان الذي يكون للقرآن على النفوس؛ لأنَّ الأنفس متنوعة.

بل النفس الواحدة لها مشارب، فالنفس تارة يأتيها الترغيب وتارة يأتيها الترهيب، تارة تتأثر بالمثل، تارة تتأثر بالقصة، تارة هي مُلْزَمَة بالعمل، تارة هي ملزمة بالاعتقاد.

فَكَوْنُ هذه وراء هذه وراء هذه تُغْدِقُ على النفس البشرية أنواع ما تتأثر به.

وهذا لا يمكن أن يكون إلا من كلام من خَلَقَ هذه النفس البشرية، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].

فتجد أنَّ القرآن يحاصرك، فأيُّ إنسان أراد أن يفر لا يمكن أن يفر من القرآن، ستأتيه قوة بآية فيها وصف الكافرين، آيات فيها قوة في وصف المنافقين، آيات فيها قوة في وصف المؤمنين، آيات فيها العقيدة، فيها الماضي، فيها الحاضر، فيها النبوة، فيها الرسالة، فيها الدلائل، فيها حال المشركين، إلى آخر [ ..... ] ما يحصر على النفس الحية والعقل الواعي الذي يتحرك وعنده همة يحصر عليه الهروب.

وهذا لا يمكن أن يحصره في أنواع النفس البشرية الواحدة إلا من خَلَقَ هذه النفس وتَكَلَّمَ بهذا القرآن لإصلاحها، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9].

فكيف إذاً بأنواع الأنفس المختلفة، هذا الذي يَصْلُحُ له الترغيب، وهذا الذي يَصْلُحُ له الترهيب، وهذا الذي يَصْلُحُ له وصف الجنة، وهذا الذي ينشأ عنده الإيمان بالحب وإلى آخره، وذلك الذي ينشأ عنده الإيمان بالجهاد، ونحو ذلك.

~ ثانياً:

تنوع الأنفس وخطاب القرآن للناس جميعاً على تنوع أنفسهم هذا دليل على أنَّ هذا القرآن له سلطان على النفوس.

أيضاً تجد أن القرآن خُوطب به من عنده فن الشعر وما يسميه بعض الناس موسيقى الكلام؛ يعني رنات الكلام.

بعض الناس عنده شفافية في التأثر باللحن، بالرنات، بالصعود والنزول في نغمة الكلام، هذا النوع من الناس تجد في القرآن ما يجبره على أن يستسلم له.

لَبيد بن رَبيعة صاحب معلقة وصاحب ديوان مشهور، قيل له: ألا تنشدنا من قصائدك، لم وقفت عن الشعر؟ قال أغناني عن الشعر وتذوقه -أو كما قال- سورتا البقرة وآل عمران.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير