تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قد يتساءل سائل: إن سلَّمنا بأن الاستفزاز بمعنى الاستخفاف، فما معنى حرف الجر " مِنْ " في قوله تعالى: " فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا "؟

وجواب ذلك في إنابة بعض حروف الجر عن بعض، حيث إن بعض حروف الجر، تفيد معانٍ عدة (منها معاني حروفٍ أخرى)، ويُفهَم المعنى من السياق. [43]

مثلاً الباء: تفيد عدة معانٍ:

في: كقوله تعالى: " وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ". [آل عمران123].

عن: كقوله تعالى: " الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ". [الفرقان: 59].

على: كقوله تعالى: " مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ". [آل عمران: 75].

مع: كقوله تعالى: " فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ ". [طه: 78].

من: كقوله تعالى: " عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ". [الإنسان: 6].

إلى: كقوله تعالى: " وَقَدْ أَحْسَنَ بِي". [يوسف: 100].

والآن إلى موضع الشاهد هنا:

قوله تعالى: " فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأرْضِ " [الإسراء: 103].

الراجح أن " مِنْ " هنا تفيد معنى الظرفية: (فِيْ)، بدليل أن من معاني (في): التبعيض أو البيان (مِن).

فمن الممكن أن يدل أحدهما على معنى الآخر ... وذلك بحسب الأمثلة التالية:

أولاً: " فِيْ " بمعنى " مِنْ ": [44]

- قوله تعالى: " وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِيْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيْدَاً ". [النحل: 89].

أي: من كل أمة. انظر ما قبلها: " وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) ". والنساء: " فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) ".

- وقول امرئ القيس [45]:

أَلا أَيُّها اللَيلُ الطَويلُ أَلا اِنجَلي بِصُبحٍ وَما الإِصباحُ فِيْكَ بِأَمثَلِ

أراد: منك.

- وقوله:

وَهَل يَعِمَن مَن كانَ أَحدَثُ عَهدِهِ ثَلاثينَ شَهراً في ثَلاثَةِ أَحوالِ

أراد: من ثلاثة أحوال.

ثانياً: " مِنْ " بمعنى " فِيْ ": [46]

- قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ .. ". [الجمعة: 9].

أي: في يوم الجمعة.

- وقوله تعالى: " قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ .. ". [فاطر: 40].

أي: في الأرض.

- ومثله للشاعر الجاهلي: [47]

عَسى سائِلٌ ذُو حاجَةٍ إِن مَنَعتَهُ مِن اليَومِ سُؤلاً أَن يَكون لَهُ غَدُ

أي: في اليوم.

بهذا يتبين أنه يجوز لـ (مِنْ) أن تحمل معنى الظرفية (فِيْ) , بالإضافة إلى ما تتميز به من معان أخرى.

الصواب في تفسير الآية الكريمة

قال تعالى في سورة الإسراء: " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) ".

وفرعون حين أراد الاستخفاف ببني إسرائيل لم يشأ أن يستخفهم ليخرجهم، بل ليرهبهم ويسهل انقيادهم له عبيداً أذلاء؛ كما أنه حين استخف بقومه لم يرد إلا ذاك .. لم يُرد إلا أن يستخف بكل من في مصر: المصريين (ونجح في ذلك) وبني إسرائيل .. ولا يُعقَل أن يتمنى خروجهم.

أراد الله جل جلاله للطائفة المؤمنة من بني إسرائيل العلو والتمكين في الأرض، ولا يتحقق ذلك وهم يتعرضون لاستفزاز فرعون وملئه صباح مساء.

والتمكين عكس الاستفزاز والاستخفاف، ويكون جائزة الصبر والتوكل على الله تعالى.

جاء في مدارج السالكين: " فمن وفَّى الصبر حقه، وتيقن أن وعد الله حق، لم يستفزه المبطلون، ولم يستخفه الذين لا يوقنون. ومتى ضعف صبره ويقينه ـ أو كلاهما ـ استفزه هؤلاء واستخفه هؤلاء، فجذبوه إليهم، بحسب ضعف قوة صبره ويقينه. فكلما ضعف ذلك منه، قوي جذبهم له. وكلما قوي صبره ويقينه، قوي انجذابه منهم، وجذبه لهم ". [48]

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير