أو القول بجواز تقبيله قياساً بوضعه على الوجه كما رُوي عن عكرمة. أما قياسه على تقبيل رأس الوالد تعظيماً له فمحتمل، لأن تقبيل رأس الوالد طريق يشعر به الولد والده بتعظيمه إياه، ويستدل به الوالد على تعظيم ابنه له. إلاّ أنه قد يقال ينبغي أن يكون التقبيل لليد أو الرأس إجلالاً وتعظيماً عند من يعقل معناه، لا من عداه، ويشكل عليه تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون –رضي الله عنه- لما مات، وتقبيل أبوبكر –رضي الله عنه- للنبي صلى الله عليه وسلم لما مات، وقد يجاب عليه بأن العرف جرى بأن تقبيل الصالح أو من له حق فضلاً عن النبي من جملة إجلاله، أو هو من قبيل الشفقة كما في فعل النبي صلى الله عليه وسلم بعثمان، أو التبرك كما فعل أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو هو خاص بمن يبلغه السلام حياً وميتاً عليه الصلاة والسلام.
وفرق بين بني آدم وسائر السائمة والجمادات وإن جلت، ولعله لأجل هذا المعنى قال عمر رضي الله عنه قولته المشهورة عند تقبيله الحجر الأسود إذ هي محض عبادة. وكذلك إنكار ابن عباس على معاوية رضي الله عنهما تقبيله بقية الأركان.
ومن نحو ذلكً وضع المصحف على العينين، قال ابن مفلح في الآداب الشرعية: "وعنه التوقف فيه [يعني التقبيل] وفي جعله على عينيه قال القاضي في الجامع الكبير إنما توقف عن ذلك وإن كان فيه رفعة وإكرام لأن ما طريقه القرب إذا لم يكن للقياس فيه مدخل لا يستحب فعله، وإن كان فيه تعظيم إلا بتوقيف ألا ترى أن عمر لما رأى الحجر قال لا تضر ولا تنفع ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك. وكذلك معاوية لما طاف فقبل الأركان كلها أنكر عليه ابن عباس, فقال: ليس في البيت شيء مهجور. فقال: إنما هي السنة. فأنكر عليه الزيادة على فعل النبي صلى الله عليه وسلم". أهـ المراد.
أما إن كان الفعل عبادة محضة، ولم يرد بخصوصه أثر-وبعضهم شرط نقل الفعل وإلاّ عد متروكاً، ولعله ليس بسديد- فالصحيح أنه إما أن يندرج تحت نص عام أو لايندرج.
فإن لم يندرج منع.
وإن اندرج ساغ.
ومن طريق معرفة اندراجه تحت النص العام من عدمه اللغة أو العرف أو العقل.
فما لم تدل اللغة أو العرف أو العقل على اندراجه ضمن عموم المأمور به أو المنهي عنه فلا يقال بتناوله له، ولهذا لم يقل أحد من أهل العلم فيما يظهر بندب تقبيل البُدن أو الهدي مع أن البدن أو الهدي أول ما يندرج في قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).
ولكن ليس تقبيل البدن المهداة من تعظيم الشعيرة لا لغة ولا عقلاً ولا شرعاً، بخلاف تسمينها فإنه يندرج تحت تعظيمها لغة وعقلاً وشرعاً.
أما عد تقبيل المصحف تعظيماً بعموم النص فبابه العرف إذا جاء عملاً بمجرد العموم، أو القياس على ما مضى ذكره.
فإذا تقرر مما سبق من أنه لاسبيل لعد الفعل تعظيماً بغير ما ذكر بل لعل في بعض ما ذكر ما يخالف بعض أهل العلم في اعتباره طريقاً صحيحاً للتعظيم المشروع.
إذا تقرر هذا فإن القول بأن من تعظيم المصحف وضعه على جنبه بحيث تكون سورة الناس في أسفله وسورة البقرة في أعلاه، أو القول بأن من تعظيم الحرمات عدم وضعه بحيث تكون سورة الناس في أعلاه. قول محدث لم يقل به أحد من السلف في قرونهم المفضلة الأول، ولايدل عليه قياس، ولايندرج أحد الفعلين لغة ولا عرفاً ولا عقلاً تحت مسمى التعظيم. سواء على القول بأن ترتيب المصحف توقيفي، أو اجتهادي، فليس في وضع المصحف على أحد جنبتيه تغييراً لذلك الترتيب.
وقد علم أن من نشر مصحفاً أمامه يقرأ فشقه الأيمن يكون أعلاه آخره من حيث ترتيب السور، فهل يقال: إذا قرأ قل هو الله أحد والمعوذتين ساغ ذلك فإذا فرغ منهما فقلب الصفحة لم يسغ؟
وإن زعم بأن وضعه بهذه الصفة دليل على عدم العناية، فلا يسلم، فما الذي جعل قارئا متدبراً ختم الكتاب ثم أغلقه وقبله ووضعه أمامه، غير معتنياً به، والآخر الذي طبق دفتيه مستعجلاً على الجنب الذي تذكره كان معتنياً متأدباً! بل ما يفيد العناية والأدب أمور أخرى قد تقترن بكلا الفعلين السائغين الجائزين.
ولو قال قائل وضع الكتاب على الصفة التي أنكرت أحرى وأولى ليكون فهرس السور بآخره أقرب للقارئ فيكون رجوعه إلى الصفحة التي أراد أسرع لكان لقوله وجه.
وبالجملة فإن الإلزام بوضع المصحف على أحد شقيه تحكم وإلزام بغير ملزم وأخشى أن يكون إلى البدع المحدثة أقرب، والله أعلم.
وأما المسألة الثانية:
وهي النهي عن وضع المصحف في الحقيبة ثم وضعها في الأرض أو على الظهر.
فلعلها كالسابقة إلاّ إن كان في الحقيبة غير المصحف معه ثم وضع بحيث يكون فوقه فهذه الأولى أن تترك. وإنما قال أهل العلم بكراهة وضع المصحف مباشراً للأرض ولم يره آخرون كذلك إذا كان على غير وجه امتهان، وإلاّ فهو كفر عند جميعهم.
وأما المسألة الثانية:
فلعل الأولى تركها، والأخطاء يمكن تحديدها بكتابة رقم الآية والسورة في ورقة، ولا يلزم وضع خط تحتها، فقد جاءت في النهي عن الخط آثار عن بعض السلف ولم تثبت إلاّ أن الأمر بتجريد القرآن وكراهتهم خلطه بغيره ثابتة، وقد قال بعضهم بالتفريق بين ما يسهل تمايزه عن القرآن، وبين ما هو من القرآن، وبين الكلام الذي قد يختلط به، إلاّ أن الخروج من الخلاف أولى ولاسيما إذا كان ليس ثم ما يأطر إلى الدخول فيه.
وعليه فإني أوصي الأخوات في الجمعية بأن لايجعلوا هذه المسائل محل تعنت وإلزام، ولاسيما المسألة الأولى.
وأن يحرصوا على الإلزام بما ثبت أنه من التوقير والاحترام، والنهي عن ما ورد أنه من ما لاينبغي فعله وهذا كثير مفصل في مظانه، وقد ذكر القرطبي جملة منه في مقدمة تفسيره.
والله أعلم وأحكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¥