أولاً: هذا يدخل في قول العلماء: من علم حجة على من لم يعلم، وأنت ترى الحال أن الأزهريَّ يحكي ما رأى، فإن كان وقع الكذب، فإنه لا يكون من عنده، بل لعله من عند من أخبره زاعمًا أن شمرًا كتب كتابًا سمَّاه (الجيم)، وأن ما أُريه فإنه من هذا الكتاب، وهذا التخريج للظنِّ الحسن بالأزهري الثقة، فإنه من المستبعد ـ على من عرف حاله ـ أن يكون صنع هذا الخبر.
ووصف الأزهري لكتاب شمرٍ لا يتناسب مع كتاب (الجيم) لأبي عمرو الشيباني، فليس مليئًا بالشواهد، ولا هو مليء بتفسير السلف ولا غريب الحديث.
وهذا الانفراد ـ أي: انفراد الأزهري بنقل خبر هذا الكتاب ـ كان مدعاة للطعن على الأزهري في نقله، وليس الأمر كذلك، إذ وجود كتاب لشمر بهذا العنوان ليس بمحال، كما أنه ليس محالاً أن يطلع عليه النادر من الناس، وذلك معروف عند من يتتبع أخبار الكتب، إذ لا زال الباحثون يذكرون كتبًا لأعلام من العلماء لم يرها غيرهم، ولم تُعرف إلا من طريقهم، ونقد الأزهري من هذه الجهة يحتاج إلى إعادة نظر.
ثانيًا: إن هذه القضية تعطينا التدريب العملي للتعامل مع الأخبار في كتب التراجم، فنحن بين إسناد ومتن، وغالبًا ما تكون أخبار كتب التراجم مرسلة، وكثيرٌ منها يكون من قبيل تحديث معاصرٍ للحدث، وتختلف الكتب الناقلة للخبر، فهناك من بنى كتابه على التراجم، واستفاد من كتبها، وهناك من استند إلى النقل الشفاهي، وهناك من ينقل عن كتب الأدب ... الخ من مصادر الترجمة.
ولا شكَّ أنه يُتسامح في نقل هذه الأخبار ما لا يُتسامح في نقل الآثار، فضلاً عن أحاديث النبي المختار صلى الله عليه وسلم.
لكن لا يعني هذا عدم الدخول إلى نقد تلك الأخبار الواردة في كتب التراجم، التي غالبُ ما يأتيها النقد من جهة المتن؛ إذ ليس كل الأخبار ينطبق عليها اتصال السند وصحته، وليس السند هو الوحيد في إسقاط خبرٍ ما من أخبار كتب التراجم.
ويمكن أن نفترع تقسيمًا للأخبار الواردة في أحوال الرجال ـ من حيث الجملة ـ إلى أقسام:
القسم الأول: ما ورد في تراجم علماء الحديث النبوي لنَقَلَةِ الآثار النبوية.
القسم الثاني: ما ورد في كتب التاريخ والتراجم.
القسم الثالث: ما ورد في كتب الأدب.
القسم الرابع: ما ورد من الإخبار في غير مظانه من الكتب.
وكل قسم من هذه الأقسام يحتاج إلى استقراء وتفصيل في مجال تحليل الأقوال ونقلها ونقدها، ويمكن الإشارة إلى بعضها بما يأتي:
القسم الأول: ما ورد في تراجم علماء الحديث النبوي لنَقَلَةِ الآثار النبوية.
وهؤلاء النقاد قد بلغوا من الأمانة والدقة في النظر مبلغًا عظيمًا، ولا يدركه إلا من قرأ في سيرهم، ونظر في أخبارهم، وتعلَّم طرقهم في نقد الرجال، وها أنت تقرأ في موضوع (علل الأحاديث) ما يذهب بِلُبِّك من دِقِّة كشفهم عن علله.
والحديث عن هؤلاء وطرائقهم في نقد الرجال ليس هذا محلُّ تفصيله، وله رجاله الذين قاموا ببيانه.
وإن من أكبر أسباب قوة هؤلاء ـ في نسب الأخبار إلى أصحابها أو نقدها ـ أنهم يقومون على حفظ الشريعة والدين، فتراهم يتحرَّون في المعلومة أيَّما تحري، ويتمهلون في الحكم؛ لأن حكمهم يُبنى عليه حكم شرعي، وقبول أثر نبوي أو رفضه، فحينما ينسبون خبرًا إلى رجل، ويقوم على هذا الخبر تعديل أو جرح، فإنهم يتحرون في الحالين، ولا يكاد رجالاتهم المشهود لهم بالعلم بالرجال ـ جيلا بعد جيل ـ يخطئون في هذا.
القسم الثاني: ما ورد في كتب التاريخ وكتب تراجم العلماء من نحاة ولغويين وأدباء وغيرهم.
وهذه الكتب لا تلتزم صحة الأخبار، وقد يقع فيها ما هو مكذوب، مع ملاحظة عدم شمولها لجميع أخبار الناس وتراجمهم، بل يغلب على كتب التاريخ الحديث عن الأحوال السياسية وما يدور في فلكها، وعلى كتب التراجم الترجمة للملوك والأمراء والوزراء والكبراء والعلماء.
وقد يكون في هذه الكتب غمط للمخالفين، وغضُّ الطرف عن الموافقين، خصوصًا إذا كان صاحب الكتاب يتمذهب بمذهب فقهي أو عقدي أو نحوي أو غير ذلك.
القسم الثالث: ما ورد في كتب الأدب.
وهذه الكتب تحمل جملة من الأخبار والأشعار، بل هي قوام كتب الأدب، وهي تعتمد على ذكر نوادر الأخبار عن من هو معروف من الأعلام، وعن من هو غير معروف.
¥