والأخبار في هذه الكتب من أقل درجات الأخبار المقبولة، بل يمكن القول بأنها ليست عمدة؛ لأنه يدخلها الوضع والتندر بالناس من المخالفين وغيرهم، وكم من خبر تجده في كتب الأدب المتقدمة معزوًا لفلان، ثم تراه قد تحول في روايات المتأخرين إلى غيرهم، بل قد تجد الخبر فيه قضية من القضايا، وإذا انتقل إلى أهل مذهبِ مخالفٍ ادخلوا فيه اعتقاداتهم، كما ورد في بعض كتب الأدب خبر عن مزبد المدني، وفحواه أنه صار على المدينة النبوية ريح شديدة وريح حمراء، فخرج الناس في الصباح الباكر يصيحون: القيامة، القيامة، فأطل عليهم وقال: يا جماعة، قيامة بلا مسيح دجال ولا مهدي؟!
وقد نقل بعض الرافضة في كتبهم الأدبية هذه الرواية، وجاء فيها: ((فقال مزبد: هذه قيامةٌ على الريق بلا دابة الأرض والدجال ولا القائم)).
ولعل القارئ الكريم لا يخفى الفرقة التي تؤمن بالقائم (المهدي المنتظر عند الرافضة الإمامية الإثني عشرية).
القسم الرابع: ما ورد من الإخبار في غير مظانه من الكتب.
في هذا القسم قد نجد المعلومة في ترجمة علمٍ في كتب رجال الحديث، وهي أخص به في كتب طبقات النحويين أو اللغويين أو الأدباء، فتدخل في هذا القسم؛ إذ المفترض ـ مثلاً ـ أن نجد في ترجمة علمٍ من الأعلام بأن له كتابًا في النحو في تراجم النحويين، فإذا وجدناها في كتاب تاريخ ـ مثلاً ـ، وكذا الأصل أن نجد في أعلام الحديث النبوي ما يتعلق بتوثقيهم وتجريحهم أو ما يتعلق بذلك في كتب التراجم الخاصة بهم، كتهذيب الكمال وأمثاله.
ومن أمثلة ما ورد في غير مظانه مما هو متعلق بالجرح والتعديل في الرجال؛ ما ورد كتاب البدء والتاريخ المنسوب لمطهر بن طاهر المقدسي (ت: 507)، فقد ورد فيه معلومة نفيسة تتعلق بمقاتل بن سليمان (ت: 150) وعلاقته بالضحاك بن مزاحم (ت: 105)، حيث نفى بعض علماء الحديث أن يكون قد سمع الضحاك،ويشهد بهذا ما ورد في كتاب البدء والتاريخ، قال المؤلف: ((ذكر ما جاء في خراب البلدان: في كتاب أبي حذيفة عن مقاتل أنه قال: قرأت في كتب الضحاك بعد موته ـ وهي الكتب المخزونة عنده ـ في قوله عز وجل .... )). وهذا يفيد بأن رواية مقاتل عن الضحاك كانت من طريق الوجادة، ولم يسمع من الضحاك.
وكان من المتوقع في هذه المعلومة أن تكون في كتب تراجم رجال الحديث، وليس في مثل كتاب البدء والتاريخ.
وبعد هذا التقسيم، فإن المقصود من ذلك أننا نحتاج إلى ضوابط للتعامل مع الأخبار في هذه الكتب، فهل يقال:
الأصل في ذلك قبولها إلا إذا ورد في ذلك أمارات تدلُّ على عدم قبولها؟
أو يقال: إنها لا تقبل ولا تردُّ إلا بدلائل؟
إن الأصل الذي سار عليه العلماء هو الأول، وهو (قبولها إلا إذا ورد في ذلك أمارات تدلُّ على عدم قبولها).
وهذا يعني أننا لا نمتنع من نقد مثل هذه الأخبار ـ كما هو الحال في خبر كتاب الجيم لشمر ـ، لكن ما هي مقومات نقد الأخبار؟
1 ـ إذا ورد الخبر عن ثقة، فإن الأصل قبوله، كما هو الحال في نقل الأزهري لخبر كتاب شمر، فليس هناك من الدواعي ما يدعو إلى الكذب في هذا الخبر.
2 ـ إذا ورد الخبر عن من عُرِف بالكذب فإنه لا تُقبل روايته له، بل تُعدُّ ساقطة، وأحوال هؤلاء معروفة في كتب التراجم، ومنه من يكون له باع في العلم والمفاكهة والمسامرة، كما هو الحال في عيسى بن يزيد بن دأب، فقد ورد في ترجمته في (مراتب النحويين): ((كان يضح الشعر وأحاديث السمر كلاً ما ينسبه للعرب فسقط علمه وخفيت روايته وكان شاعراً وعلمه بالأخبار أكثر)).
وخبر مثله لا شكَّ أنه يسقط، حتى إنه من شدة معرفة الناس له صار مضربًا للمثل، فقد أورد الفراء في تفسير قوله تعالى: (إلا اماني): (( ... والأماني أيضًا: أن يفتعل الرجل الأحاديث المفتعلة، قال بعض العرب لابن دأب ـ وهو يحدث الناس ـ: أهذا شيءٌ رويته أم تمنَّيته؟ يريد: افتعلته ... )) (معاني الفراء: 1: 50).
¥