تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[محمد الأمين]ــــــــ[18 Jan 2006, 07:03 ص]ـ

وقال ابن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير": «النصب والعذاب هما الماسان أيوب. ففي سورةَ الأنبياء (83) {أني مسني الضر}. فأسند المسّ إلى الضر. والضرّ هو النصب والعذاب. وتردّدت أفهام المفسرين في معنى إسناد المسّ بالنُّصب، والعذاب إلى الشيطان. فإن الشيطان لا تأثير له في بني آدم بغير الوسوسة، كما هو مقرر من مُكرر آيات القرآن. ...

وتأولوا ذلك على أقوال تتجاوز العشرة، وفي أكثرها سماجة. وكلها مبني على حملهم الباء في قوله: {بِنُصبٍ} على أنها باء التعدية لتعدية فعل {مَسَّنِي}، أو باء الآلة مثل: "ضربه بالعصا"، أو يؤوّل النُّصب والعذاب إلى معنى المفعول الثاني من باب "أعطى". والوجه عندي: أن تحمل الباء على معنى السببية، بجعل النُّصْب والعذاب مسببين لمسّ الشيطان إياه، أي مسنّي بوسواس سببه نُصْب وعذاب. فجعل الشيطان يوسوس إلى أيوب بتعظيم النُّصْب والعذاب عنده، ويلقي إليه أنه لم يكن مستحقاً لذلك العذاب، ليلقي في نفس أيوب سوء الظن بالله أو السخط من ذلك. أو تحمل البَاء على المصاحبة، أي مسّني بوسوسة مصاحبة لضرّ وعذاب. ففي قول أيوب {أني مسَّني الشيطانُ بنُصببٍ وعذابٍ} كناية لطيفة عن طلب لطف الله به ورفع النُّصب والعذاب عنه، بأنهما صارا مدخلاً للشيطان إلى نفسه، فطلب العصمة من ذلك، على نحو قول يوسف عليه السّلام: {وإلاَّ تصرف عنّي كيدَهن أَصْبُ إليهن وأكنْ من الجاهلين} (يوسف: 33). وتنوين «نصب وعذاب» للتعظيم أو للنوعية، وعدل عن تعريفهما لأنهما معلومان لله».

ـ[روضة]ــــــــ[18 Jan 2006, 08:58 م]ـ

بسم الله الرحمن الرحيم

لم يدع علماؤنا الأجلاء علماً يتعلق بكتاب الله إلا وألفوا فيه الكتب والمجلدات؛ تعظيماً منهم لكلام الله عز وجل، ومحاولةً لاستخراج ما فيه من درر كامنة.

هناك كتب كثيرة تبحث في الآيات المتناظرة التي يشبه بعضها بعضاً، وتبيّن إن كان بينها اختلاف بكلمة وردت في إحداها ولم ترد في الأخرى، أو بكلمة قُدِّمت في آية وأُخّرت في شبيهتها، وسببَ ذلك، ومناسبةَ كلِّ آية لسياقها. أشهر هذه الكتب:

- درة التنزيل وغرة التأويل في بيان الآيات المتشابهات في كتاب الله العزيز، للخطيب الإسكافي رحمه الله.

- ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظي من آي التنزيل، لابن الزبير رحمه الله. وهو من جزأين.

وقد رجعت إليهما لمعرفة سبب الاختلاف بين الآيتين اللتين استشكلتا على الأخ السائل فاروق، وإليكم ملخص ما فهمتُه فيما يختص بهذا الفرق:

ما جاء في سورة الأنبياء كان إخباراً عن المرض الذي أصاب سيدنا أيوب عليه السلام، وكان الله سبحانه قد ابتلاه بهذا المرض ليعوضه من نعيم الجنة ما هو خير له مما سلبه من صحة بدنه، وقد تلطّف عليه السلام ـ وهو يشكو إلى الله ما أصابه ـ فقال: "أنّي مسّني الضر"، ولم يقل: (مسني الضر من عندك يا رب)، وهذا من حسن الأدب مع الله تعالى، فلم ينسب إليه الضر، مع أن المرض من عنده سبحانه.

أما ما جاء في سورة ص: "أني مسني الشيطان"، فهو يشكو إلى الله تعالى ما يلحقه من أذى الشيطان بوسوسته إليه، وفنون احتياله عليه، ليضيق صدره بما أصابه فينقص حمده وشكره.

في هذه الآية يفصح أيوب عليه السلام عمّن سبب له النصب والعذاب وهو الشيطان.

والخلاصة أن الفرق بين الآيتين الكريمتين ـ والله أعلم ـ أن آية الأنبياء تتحدث عن الضر الناتج عن المرض، بدون التصريح بنسبة هذا الضر إلى الله تعالى.

بينما آية ص تتحدث عن مس الشيطان المقصود به الوسوسة مع التصريح بنسبته إلى الشيطان، وهذه الوسوسة قام بها الشيطان ليستغل المرض الذي جاء ذكره في آية الأنبياء، فالوسوسة مترتبة على المرض، وليست هي عين المرض، فكل آية تخبرنا عن أمر، وبهذا يندفع الإشكال الذي عند الأخ فاروق بأن أسباب المرض معروفة مثل البكتيريا، فليس الشطان عاملاً مسبباً للمرض، وإنما جاء عمله بالوسوسة بعد أن أصيب أيوب عليه السلام بالمرض.

ومما يؤيد هذا ما جاء في تفسير العلامة الألوسي (روح المعاني)، فبعد أن ذكر أقوالاً عدة في معنى النصب والعذاب، وضعّفها، ذكر قولاً لم ينكره: " ... وذهب جمعٌ إلى أن النصب والعذاب ليسا ما كانا له من المرض والألم أو المرض وذهاب الأهل والمال، بل أمران عرضا له وهو مريض فاقد الأهل والمال، فقيل: هما ما كانا له من وسوسة الشيطان إليه في مرضه من عظم البلاء والقنوط من الرحمة والإغراء على الجزع كان الشيطان يوسوس إليه بذلك وهو يجاهده في دفع ذلك حتى تعب وتألم على ما هو فيه من البلاء، فنادى ربه يستصرفه عنه ويستعينه عليه".

أما الإشكال الآخر وهو كما قال الأخ فاروق: "وبخصوص المس هنا .. هل هو معنوي من قبيل الوسوسة .. وهذا مستبعد .. لأن في هذه الحالة سيكون التشكيك فيما جاء به كنبي .. "، فببساطة: الشيطان ليس له سلطان على الذين آمنوا، فليس له إلا الوسوسة.

وهذا الفرق بين الآيتين الكريمتين ترتّبت عليه فروق أخرى اختصت بها كل آية، وهي أنه جاء في سورة الأنبياء: "رحمة من عندنا"، وفي سورة ص: "رحمة منا"، وختمت آية الأنبياء بقوله: "وذكرى للعابدين"، وختمت آية ص بقوله: "وذكرى لأولي الألباب".

إن الكشف عن أسرار اختيار الكلمات القرآنية والفروق التي بين الآيات يحتاج إلى إعمال فكر ورويّة، ثم قد تصل العقول إليها فتكشفها، وقد تبقى مخفية بسبب القصور البشري، ولكن ما لا يشك به مسلم أن كل كلمة في القرآن الكريم لها مكانها الذي لا يصلح له غيرها، فالكلمة جيء بها منتقاة ووضعت في موضعها قصداً، فاختيار الكلمة واختيار موضعها من دعامات فصاحة القرآن كما يذكر القاضي عبد الجبار الهمذاني في كتابه المغني، وهذا من عظمة القرآن وعلو منزلته في البلاغة ومظهر من مظاهر إعجازه.

والله تعالى أعلم بالصواب

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير