تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يوضح أسد الأمر فى الهامش بقوله إن "كلمة "الأعراف" (التى أعطت السورةَ اسمها) قد تكررت فى القرآن مرتين ليس إلا، وذلك فى الآيتين 46 و 48 من هذه السورة. وهى جمع "عُرْف"، التى تعنى فى الأصل "المعرفة" أو "الاستبصار"، كما تستعمل للدلالة على أعلى أو أسمى جزء فى الشىء (لأنه أسهل جزء يمكن رؤيته) مثل "عُرْف الديك" و"عُرْف الحصان" ... إلخ. وعلى أساس من هذا الاستعمال الشائع فإن كثيرا من المفسرين قد حسبوا أن "الأعراف" هنا تشير إلى "الأماكن المرتفعة" مثل أعالى جدار أو سور، ومن ثم ربطوا بينه وبين "الحجاب" المذكور فى الجملة السابقة (جملة "وبينهما (أى بين أهل الجنة وأهل النار) حجاب"). لكن هناك تفسيرا أصوب من ذلك يعتمد على المعنى الأصلى لكلمة "عُرْف" وجمعها، ألا وهو الاستبصار والتمييز أو القدرة عليهما. وقد أخذ بهذا التفسير بعض كبار المفسرين القدماء كالحسن البصرى والزَّجّاج، اللذين يوافقهما الرازى على ما قالاه موافقة صريحة، واللذين يؤكدان أن عبارة "على الأعراف" ترادف قولنا: "على معرفة"، أى أصحاب علم أو ذوو مقدرة على التمييز (بين الحق والباطل)، ومن ثم فالرجال الذين على الأعراف هم الذين كانوا فى دنياهم قادرين على إبصار الحق من الباطل (متعرفين على كل منهما بعلامته المميزة له)، لكنهم فى ذات الوقت لم يكونوا قادرين على اتخاذ موقف محدد منهما، أى كانوا باختصار أشخاصا غير مبالين. وهذا الموقف الفاتر قد حرمهم من عملِ الكثير من الخير أو الشر بحيث أدى ذلك فى النهاية إلى ما تقوله الآية التالية من أنهم لا يستحقون الجنة ولا النار (وهناك عدة أحاديث بهذا المعنى أوردها الطبرى وابن كثير فى تفسيرهما لهذه الآية). هذا، ويُقْصَد بكلمة "رجال" فى الآيتين المذكورتين "الأشخاص" من الجنسين: جنس الرجل وجنس المرأة على السواء" [8].

وواضح أن أسد ينطلق من أن المعنى الأصلى لكلمة "عُرْف" هو "المعرفة" وأن دلالتها على أعلى جزء فى الشىء هى دلالة فرعية، لكنه بهذه الطريقة يقلب رأسا على عقب ما نعرفه من أن المعنى المادى للكلمة هو الأساس الذى تتفرع منه المعانى المجردة. وإذن فهذا المعنى الأخير الذى ذكره أسد على أنه المعنى الفرعى هو فى الواقع المعنى الأصلى لا العكس. وثانيا هل يمكن فى العربية أن نقول إن فلانا "على الأعراف" ونحن نقصد أنه على معرفة واسعة وقدرة على التفرقة بين الصواب والخطإ؟ الذى أعرف أننا نقول مثلا: "فلان على معرفة بكذا"، لكن الذى لم أسمع به قط هو القول بأن فلانا "على عُرْف" (أى على معرفة)، بَلْهَ أن نقول" "فلان على أعراف"، فضلا عن "فلان على الأعراف" (بالألف واللام)! ترى هل يصح أن نقول "فلان على المعارف"؟ فما بالنا بـ"على الأعراف وثالثا فإن الزمن فى قوله تعالى: "وعلى الأعراف ... " هو نفس الزمن الذى ينظر فيه هؤلاء الرجال إلى كل من أهل الجنة وأهل النار، أى فى الآخرة، أما الأستاذ أسد فيقول إنهم "كانوا" يتمتعون "فى الدنيا" بالمقدرة على التمييز بين الحق والباطل. وهذا غير ذلك كما هو واضح. ثم إن العرب إذا وصفوا شخصا بالتمييز بين الحق والباطل فإنهم يقصدون مدحه لا القول بأنه فاتر فى موقفه تجاههما مما يدخل فى باب الذم لا المدح. وهذه هى الملاحظة الرابعة، أما الخامسة فهى أن أصحاب الموقف الفاتر فى هذا الأمر هم عادةً الأشخاص الذين لا يتمتعون بمقدرة على المقاومة ولا يستطيعون، من ثَمَّ، الصمود أمام إغراءات الشهوات والأباطيل. أليس هذا هو ما نشاهده فى الحياة؟ وعلى ذلك كان ينبغى أن يكون مكان هؤلاء مع أهل النار. وسادسا لقد تحدث القرآن كثيرا عن الكافرين الذين يصرون على كفرهم رغم علمهم أنهم على الباطل، وأن النبى والقرآن على الحق، ومع ذلك لم يستعمل كلمة "الأعراف" فى أى موضع من هذه المواضع، بل يستعمل عادةً كلمة "يعرفون" أو "يعلمون". وعلى أية حال لقد كان ينبغى على محمد أسد أن يترجم هذه العبارة ترجمة مباشرة، ثم فليقل فى الهامش ما يشاء، وذلك احتراما للنص القرآنى وحفاظا عليه بدلا من تَحَيُّفه وطمسه قليلا قليلا، مع إسقاط تصوراتنا ومفاهيمنا عليه فى ذات الوقت. إن النص القرآنى شىء، وفهمه وتفسيره شىء آخر. وإن مكان التفسير فى مثل هذه القضية هو الهامش الذى سيُحْسَب حينئذ على المترجم لا على القرآن نفسه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير