تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أحد غيرهما، فما بالنا بعُرْى الدنيا الذى يكون عُرْضَة لأنظار الآخرين؟ وفوق ذلك فإنه سبحانه قد نسب نَزْع الملابس عن أبوينا الأولين إلى الشيطان نفسه بما يبرهن أقوى برهان على قبح ذلك وشنعه عند رب العالمين. إن هذا الموقف الذى ينسبه أسد إلى ذى القرنين لهو أشبه بما كان يفعله المستعمرون الأوربيون مع همج القارة الأفريقية، إذ كانوا يجهدون فى إبقائهم فيما هم فيه من جهل وبدائية وتخلف كى يستطيعوا نزح ثروات القارة السوداء دون حسيب أو رقيب.

وثمة أيضا لفظةٌ قد ترجمها الأستاذ أسد بطريقة لا يمكننى هضمها أو إقراره عليها، وهى تأديته الحرفين الأولين (ط. هـ) فى مفتتح سورة "طه" بـ " O man: يا رجل" رغم أنه أحد المعانى التى يذكرها مفسرو القرآن قائلين إن هذا هو معنى "طه" فى النبطية والسريانية وغيرهما. بل إنه قد ترجم اسم السورة بنفس الطريقة أيضا، فأصبحت تعرف عنده بـ "سورة يا رجل" [10].

ولقد سبق فى كتابى: "سورة طه- دراسة لغوية أسلوبية مقارنة"، فى فصل "ملاحظات فى تفسير السورة"، أن رفضتُ رفضا قاطعا أى تفسير لهذه الكلمة لا يقول إنها حرفان من الحروف المقطَّعة مثل "ألم" و"ألمص" و"طس" و"حم" و"ق". ويجد القارئ هناك بسطا لرأيى وللآراء التى رددتُ عليها. والذى يهمنا هنا هو القول بأن تفسيرها بـ "يا رجل" هو قول غريب عجيب فيه إساءة للنبى عليه السلام، إذ لم يحدث أن ناداه ربه سبحانه بغير النبوة والرسالة: "يا أيها النبى"، "يا أيها الرسول" أو بصفةٍ تدل على حالة خاصة به: "يا أيها المُزَّمِّل"، "يا أيها المُدَّثِّر". فالقول إذن إنه سبحانه قد ناداه هنا بكلمةٍ عامةٍ تصدق على كل البشر هو قول لا يتسق مع الطريقة التى ينادى بها المولى فى القرآن عبده محمدا. ولنلاحظ أيضا أن أسلوب النداء: "يا أيها الـ ... " المستعمل فى جميع المرات التى نودى فيها الرسول عليه الصلاة والسلام لا وجود له فى "طه"، فلماذا يشذ القرآن الكريم هنا عن أسلوبه فى مناداة الرسول؟ بل لماذا يا ترى يلجأ إلى النبطية والسريانية فى نداء محمد العربى القرشى؟ أهو ضيق فى اللغة استلزم استعارة هذا اللفظ؟ أم هل هو نوع من استعراض المعرفة باللغات الأخرى؟ حاشا لله! أم ترى من المعقول أن ينادى رب العالمين رسوله الأثير بما يضيق صدر الواحد منا، نحن الذين لا نرتفع إلى عشر معشار مقامه عليه السلام، لو نُودِىَ به لما يراه فيه بحقٍّ من تجهيل واحتقار؟ إن بعضهم يظن أن ورود "كاف الخطاب" فى كلمة "عليك" فى الآية التالية: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" معناه أنه لابد أن تكون "طه" نداء للرسول. لكن ما وجه اللزوم فى ذلك؟ إن هذه الكاف موجودة أيضا فى قوله سبحانه: "ألمص* كتابٌ أُنْزِل إليك ... "، و "كهيعص* ذِكْرُ رحمة ربك عبدَه زكريا"، و "حم* عسق* كذلك يُوحِى إليك وإلى الذين من قبلك اللهُ العزيزُ الحكيم" وغيرها، فلماذا لم يقل هؤلاء إن الحروف فى هذه المواضع هى أيضا نداء للرسول؟ لكل هذا أرفض بكل قوة أن يكون معنى "طه" هو "يا رجل"!

ومن الألفاظ التى لا أوافق الآستاذ أسد أيضا على ترجمتها كلمة "زُرْقًا" فى قوله عَزَّ مِنْ قائل عن يوم القيامة: "ونَحْشُر المجرمين يؤمئذ زُرْقًا إذ يؤديها بالإنجليزية على النحو التالى: " their eyes dimmed [by terror] ثم يوضح فى الهامش قائلا إن المعنى الحرفى هو: " [ of eye] bleu"، وإن المقصود هو أن أعينهم ستبدو كما لو كانت مغطاة بغشاوة معتمة زرقاء. وواضح أنه يصر على أن الزرقة هنا هى زرقة العيون، مع أنه ليس فى الآية ولا فى السياق ما يدل على هذا أو يُلْمِح إليه مجرد إلماح. وأَرْجَح الرأى أن تكون الزرقة هنا هى زرقة الاختناق والمعاناة الرهيبة التى سيقاسيها المجرمون يوم يُنْفَخ فى الصور. وقريب من ذلك ما جاء فى الآية 106 من "آل عمران": "يوم تبيضُّ وجوهٌ، وتسودُّ وجوه"، وكذلك الآيات 38 - 42من سورة "عبس": "وجوهٌ يومئذ مُسْفِرة * ضاحكة مستبشرة* ووجوهٌ يومئذ عليها غَبَرَة* ترهقها قَتَرَة* أولئك هم الكَفَرة الفَجَرة". ولقد شاهدتُ منذ أكثر من عشرين عاما فى أوكسفورد طفلا أصابته حالة اختناق وهو يبكى من الغضب فارتمى على الأرض يرفس الهواء من شدة بُرَحاء الألم وقد ارْبَدَّ وجهه وازْرَقّ، ووقفنا حياله عاجزين لا نستطيع شيئا، وتصورنا أنه سيموت، لكن سرعان ما انجابت

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير