تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أما فى ترجمة جملة "وهو فى الخصام غير مبين" من قوله تعالى عن بعض الآباء فى الجاهلية ممن كانوا يئدون بناتهم الرضيعات: "وإذا بُشِّر أحدهم بما ضَرَب للرحمن مَثَلاً ظلَّ وجهه مسودًّا وهو كظيم* أَوَمَنْ يُنَشَّأ فى الحِلْيَة وهو فى الخصام غير مُبِين؟ " يخطىء أسد خطأ من نوع آخر، إذ يظن أن الكلام فى جملة "وهو فى الخصام غير مبين" مقصود به الأب الذى بُشِّر بالبنت. وأغلب الظن أنه لما رأى أن الضمير المستعمل فى الآية هو ضمير المذكَّر انصرف ذهنه إلى الأب لا إلى البنت، التى وُصِفَتْ فى الجملة التى قبل ذلك بـ"من يُنَشَّأ فى الحلية". وإذا صح تفسيرى لقد كان ينبغى أن يتنبه الأستاذ أسد إلى أن الضمير هنا أيضا هو ضمير مذكر رغم استعماله للبنت. ووجه تذكيره أنه يعود على الاسم الموصول المبهم "مَنْ"، الذى أنت معه بالخيار: فإما أن تذكِّر الضميرَ العائد عليه دائما، وإما أن تطابق بينه وبين ما يدل عليه. فأنت تستطيع أن تقول: "رأيت، من النساء، من أُحِبّه" أو "رأيت، من النساء، من أُحِبّها". أما لو استخدمت كلمة "التى" فلابد من المطابقة فتقول: "رأيت، من النساء، التى أُحِبّها".

إذن فقوله تعالى: "أوَمَنْ يُنَشَّأ فى الحِلْية وهو فى الخصام غير مُبِين؟ " هو كله جملة استفهامية واحدة لا جملتان: إحداهما استفهامية على لسان الأب الساخط، والثانية خبرية داخلة فى السَّرْد كما حسب الأستاذ أسد، الذى فهم هذه الجملة الأخيرة على أن المقصود بها الإشارة إلى الصراع المحتدم فى نفس الأب: أيُبْقِى على حياة ابنته أم يئدها؟ فهذا الصراع، فى ظن المترجم، هو الخصام المذكور فى الآية، أما "غير مبين" فمعناها أنه صراع داخلى لا ينطق به لسان، ومن ثَمَّ فقد ترجم هذه الجملة على النحو التالى: "ومن هنا يجد نفسه وقد مزقه صراع داخلى خفى". والواقع أنها ترجمةٌ جِدُّ غريبة لا يقبلها الذوق العربى ولا الأسلوب القرآنى، الذى استعمل مادة "خ ص م" سبع عشرة مرة لم تأت قط فى أى منها بالمعنى الذى فهمه الأستاذ أسد، بل كلها فى الخصام بين شخصين أو جماعتين لا فى الصراع الباطنى بين رغبات الشخص المتعارضة. وحتى لو أردنا، رغم ذلك كله، أن نستخدم كلمة "خصام" فى هذا المعنى لكان علينا أن نقول: "فلان فى خصام مع نفسه" مثلا بزيادة عبارة "مع نفسه".

وفى قوله جل شأنه عن قوم لوط: "لِنُرْسِلَ عليهم حجارةً من طين* مسوَّمةً عند ربك للمسرفين" يترجم كاتبنا عبارة "حجارة من طين" إلى ما معناه: "ضرباتُ عقابٍ شديدةٌ كالحجارة". ولست أستطيع أن أجد مسوغا لهذا الذى فعله الأستاذ أسد! لقد لاحظت، كما سأوضح فى فصل لاحق، أنه دائما ما يؤوّل عذاب الآخرة ونعيمها، وهذا أمر قد يحتمل الخلاف، أما تأويل مثل هذا العذاب الدنيوى فما وجهه؟ إن حجة القائلين بتأويل الأخرويات هى أنها، بنص القرآن والحديث، شىء مختلف عما نعرفه فى الدنيا، لكن ماذا عن الأحداث الدنيوية؟ إنها وقائع تاريخية لا تقبل التأويل. ومثل هذا التصرف من شأنه أن يزعزع النص القرآنى. فالمرجوّ أن نحترمه، وفى الهوامش متسع لما نريد أن نقول، وذلك بدلا من تثبيت النص المقدس إلى الأبد على فهمنا الذى من المحتمل جدا أن يكون خاطئا، بل هو هنا خطأ بيقين. ثم فلنفترض أن ترجمة الأستاذ أسد صحيحة، فأى عقاب يا ترى ذلك الذى يشبه فى شدته الحجارة والذى أرسله الله على قوم لوط؟ ترى أيصح أن نترك مثل هذا التعبير القرآنى المشمس ونذهب فنضرب فى ظلمات الأوهام الغامضة؟ لقد ذكر أسد فى موضع آخر من ترجمته أن هذه الحجارة الطينية تشير إلى وقوع انفجار بركانى، لكنه للأسف ترك هذا التفسير وجرى وراء الربط بين كلمة "سِجِّيل" (فى قوله تعالى عن نفس الواقعة: "حجارة مِنْ سِجِّيل منضود") وكلمة "سِجِلّ"، وانتهى إلى تلك الترجمة الغربية هنا وفى الآية 82 من سورة "هود". فهو عقاب، لكنه ليس عقابا بالحجارة بل عقابا فى شدة الحجارة، أما "من سجِّيل" فمعناها "مسجلة فى لوح القدر: Pre-ordained"، وتبقى كلمة "منضود" التى جعلها صفة لضربات العقاب، ولا أدرى كيف، فهى مذكر، والضربات (أو فلنقل: "الحجارة") مؤنثة. وهذه هى عبارته فى نصها الإنجليزى: " and rained down upon them stone-hard blows of chastisement pre- ordained, one upon another". وهكذا تمزقت أوصال الآية بلا رحمة أو داع.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير