تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أما تأويل أسد لهذا النص الأخير بأن المقصود هو نار الاضطهاد فقائم على التكلف العنيف، إذ إنه قد دخل الموضوع وفى ذهنه إنكار المعجزات، وإلا فأين فى الآية ما يدل على أن المراد شىء غير الظاهر؟ الحقّ أنْ ليس فى الآية ما يدل على شىء من ذلك، وإنما اعتقاد بعض الناس، حتى من بين المسلمين أنفسهم، فى أن قوانين الكون لا يمكن إيقافها أبدا هو المسؤول عن الرغبة فى صرف مثل هذه الآيات عن ظاهرها إلى تلك التمحُّلات الغريبة. ولكى يطمئن القارئ إلى ما أقول ألفت نظره إلى أن "نار الاضطهاد" تلك التى يذكرها أسد لم تكن خاصة بإبراهيم وحده، بل كل الأنبياء والرسل قاسَوْا لَظَاها فكانت فى نهاية الأمر بردا وسلاما عليهم، فلماذا يا ترى لم يذكرها القرآن إلا فى حالة إبراهيم وحده دون سائر الرسل والأنبياء؟ وأخيرا فكونها ترجع إلى التلمود ليس بالضرورة برهانا على فسادها، وإلا لكان القرآن أول من يَضْرِب عنها صفحا. أما وقد أوردها مع ذلك فهو دليل على أنها قصة حقيقية.

وبالمثل يصف المؤلف قصة سليمان مع النملة وفهمه عليه السلام لما قالته لزميلاتها من جماعة النمل بأنها قصة خرافية قُصِدَ بها الإشارة إلى إعجاب سليمان بعالم الطبيعة وفهمه له وعطفه على أحقر مخلوقات الله شأنا. كذلك ينظر كاتبنا إلى قصة ذلك النبى الكريم مع الهدهد على أنها مجرد مَثَلٍ ضربه الله ليبين لنا أن سليمان نفسه بكل حكمته يمكن أن يجهل بعض الأشياء، وهو ما من شأنه أن يحذرنا من فتنة الغرور التى تصيب البشر، والعلماء منهم بوجه خاص، مع أن الله قد ذكر بصريح القول أنه سبحانه سخّر لسليمان جنودا من الإنس والجن والطير يأتمرون بأمره مما لم يسخره لأحد غيره، كما شكر سليمان ربه على أنْ علَّمه منطق الطير [18].

وجَرْيًا على نفس النهج يقول كاتبنا عن قصة سليمان وعفريت الجن والذى عنده علم من الكتاب وعرش بلقيس إنها قصة رمزية، فضلا عن أن "الذى عنده علم من الكتاب" هو، كما قال بناء على تفسير الرازى، سليمان نفسه، إذ "الكتاب" هو الوحى حسب ذلك التفسير. والحق إنه لمن الصعب جدا جدا أن نوافق أسد على ما يقول، فسليمان عليه السلام يسأل ملأه أيُّهم يأتيه بعرش ملكة سبإ قبل أن تأتى هى ورجال دولتها مُسْلِمين، فيرد عليه عفريت من الجن بأنه قادر على أن يأتيه به قبل أن يقوم من مكانه. وعندئذ ينبرى الذى عنده علم من الكتاب قائلا إنه يستطيع أن يأتيه به قبل أن يرتدّ إليه طَرْفه، وعلى الفور يجده أمامه فيشكر الله على هذا الفضل. وواضح تماما أن الذى عنده علم من الكتاب شخص آخر غير سليمان، وإلا فإذا كان هو سليمان، وكان كلامه موجها إلى الجنى على سبيل التحدى كأنه يقول له: إذا كنتَ تستطيع أن تُحْضِر العرش لى قبل أن أقوم من مكانى فإن هذا لا يرضينى، فأنا قادر على إحضاره فى مدة أقل من ذلك، فإن السؤال حينئذ هو: ما دام سليمان قادرا على إحضاره بهذه السرعة الفائقة التى لا نظير لها، ففيم كان سؤاله لملئه عمن يستطيع أن يأتيه به قبل أن تأتى الملكة ورجالها مُسْلِمين؟ ولم قال للجنى: "أنا آتيك به ... إلخ" ولم يقل: "أنا آتى به ... " دون كاف الخطاب ما دام الجنى لم يطلب من أحد أن يأتيه بالعرش، بل سليمان هو الذى طلب ذلك، ومن ثَمَّ فإن العرش سيأتيه هو لا الجنى؟ ولماذا قال القرآن بعد أن عرض الذى عنده علم من الكتاب أن يُحْضِره أسرع من الجنى: "فلما رآه مستقِرًّا عنده قال: هذا من فضل ربى"؟ أترى الرازى والأستاذ أسد يريدان أن يقولا: إن الذى وجده مستقرا عنده وحمد الله على فضله هو العفريت لا سليمان؟ لكن هذا قلب للأمور رأسا على عقب لأن المتفضَّل عليه هنا إنما هو سليمان لا العفريت، وعلى ذلك فهو نفسه الحامد الشاكر. ثم إن الضمير فى الأفعال بناء على تفسيرى سيكون عائدا على شخص واحد بدلا من تشتيته دون داع وتمزيق أوصال الآيات من ثَمّ.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير