تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ونفس الشىء يقوله مترجمنا عن قصة يونس والتقام الحوت له كما وردت فى سورة "الصافات"، فهى (حسبما قال) حكاية خرافية ذات دلالة رمزية. وبطن الحوت عنده إشارة إلى العناء الروحى الذى كان يرزح تحته يونس عندما فر من أداء رسالته، واليقطينة استعارةٌ قُصِد بها الإيماء إلى رحمة الله له وعودته إلى طريق النور والحياة الروحية كرة أخرى. وكل هذا تعسف فى التأويل، فليس من المعقول أن يروى القرآن حادثة تاريخية فيحذف بعض تفصيلاتها الحقيقية ويستبدل بها تفصيلات لم تقع دون أن يوضح لنا أننا بصدد سرد حكاية يختلط فيها الواقع بالخيال. ثم لماذا يفعل القرآن ذلك؟ ولماذا يدور تلك الدورة الطويلة فيحكى قصة السفينة والاقتراع وقفز يونس منها وابتلاع الحوت له وابتهاله لربه فى الظلمات أن يغفر له ويرحمه ونبذ الحوت إياه فى العراء ونبت شجرة اليقطين عليه ... إلخ؟ وما الدليل على أننا هنا أمام قصة رمزية لا حقيقية؟ وما الذى منع القرآن من رواية ما حدث فعلا؟ إن القرآن عندما يحكى أمثال هذه القصص فإنه عادة ما يمنّ على الرسول محمد عليه السلام بأن الله هو الذى أنبأه نبأ هذه القصص التاريخية دون أن يكون قد شاهد شيئا من أحداثها. أفلو كانت القصة رمزية أكان ثم موضع للمنّ الإلهى بهذا الأسلوب؟

وبالنسبة لعيسى عليه السلام نجد الأستاذ أسد يؤوِّل كلامه فى المهد بأنه إشارة مَجَازيَّة للحكمة النبوية التى كانت تلهم عيسى منذ وقتٍ جِدّ مبكر من حياته. لكننا نعرف أن اليهود، عندما أشارت إليه أمه وهو لا يزال فى المهد كى يسألوه فيما يريدون أن يعرفوه عن السر فى ولادتها إياه دون زواج، كان ردهم عليها: "كيف نكلِّم من كان فى المهد صبيًّا؟ "، وحينئذ أجابهم عيسى بقوله: "إنى عبد الله، آتانى الكتاب وجعلنى نبيًّا* ... "، فماذا يقول الأستاذ أسد فى هذا؟ إنه يؤوِّل الزمن الماضى هنا فى "آتانى" و"جعلنى" بأنهما يدلان على أن ذلك سوف يحدث فى المستقبل لا أنه حدث فى الماضى. وجوابنا هذا يدل على صحة ما قلناه عن هذه الآية، إذ معنى الكلام حسب تأويله هو أن الله سيؤتينى الكتاب وسيجعلنى نبيا فى المستقبل، ومعنى هذا بدوره أنه عليه السلام لم يكن قد أصبح نبيا بعد، ومعنى هذا ثالثا أنه كان صغيرا حقا، أليس كذلك؟ وإلا فلو لم يكن عيسى قد تكلم فعلا فى المهد فلماذا لم يذكر القرآن ذلك عن غيره من الأنبياء أيضا، وكلهم بحمد الله قد رعا الله خطواتهم منذ بداية حياتهم وصنعهم على عينه؟ ولماذا يوافق القرآن ما جاء فى بعض الأناجيل من أنه عليه السلام قد تكلم فعلا فى المهد؟ أيُعْقَل أن يحكى القرآن القصة كما رواها أحد الأناجيل مما يؤكد وقوعها، ثم ينقلب على نفسه وعلى ذلك الإنجيل مغمغما فى همس لم يسمعه إلا الأستاذ أسد ومن يلفّون لفّه بأن شيئا من ذلك لم يقع، وإنما هو كلام فى الهواء؟ إن هذا لَبسلوك البهلوانات أشبه، وحاشا لله أن يكون هذا هو منهج القرآن فى الشرح والتفهيم! وبالمناسبة فإن القاديانيين هم أيضا ينفون كلام عيسى فى المهد ويؤولونه بما يخرجه عن إعجازيته. وهذا هو ديدنهم مع الآيات الخوارق التى يؤيد الله بها أنبياءه ورسله كما قلنا.

أما نَحْت عيسى عليه السلام طيرا من الطين ونَفْخه فيه فيصير طيرا بإذن الله كما جاء فى القرآن الكريم فى أكثر من موضع، فإن مترجمنا يؤوّله بـ "الحظ أو المصير"، قائلا إن كلمة "الطائر" أو "الطير" قد تكرر مجيئها فى القرآن بهذا المعنى (فى "الأعراف"/ 13، و"النمل"/ 47، و"يس"/ 19 مثلا)، وهو تعبير عربى قديم. وبناء على هذا التأويل يكون معنى الآية أن عيسى أراد بأسلوبه المعروف أن يضرب لبنى إسرائيل مثلا يبين لهم فيه أنه، من طين حياتهم الحقير، سوف يشكل لهم رؤيا ( a vision) مصيرٍ يحلق عاليا فى أجواء الفضاء، وأن هذه الرؤيا التى سوف تتحقق على أرض الواقع بإلهام من ربه ستكون مصيرهم الحقيقى بإذن الله وبقوة إيمانهم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير