تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهذا كله، فى الواقع، خَبْطٌ على غير هدى. لكن كيف؟ أوَّلاً لم يحدث أن استخدم القرآن الكريم لفظ "الطير" بمعنى "الحظ أو المصير" بل لفظة "الطائر"، أما "الطير" فهو فيه الطيور ذوات الأجنحة، والآيات فى ذلك متعددة. ولم تشذ عن ذلك سورة "النمل"، إذ استخدم فيها القرآن لـ"الحظ والمصير" كلمة "طائر" لا "الطير"، الذى جعله فى نفس السورة جندا من جنود سليمان، ولست أدرى كيف يكون الحظ أو المصير جندا من الجند ولا كيف يُحْشَر مع غيره من جنود الإنس والجن حسبما جاء فى الآية 17، أو كيف يمكن تعلُّم منطقه كما جاء فى الآية التى قبلها. وثانيا لقد تكررت كلمة "الطين" فى القرآن إحدى عشرة مرة، وإذا استثنينا آيَتَىْ "آل عمران" و"المائدة" اللتين يحاول الأستاذ أسد تأويلهما بِلَىّ الرقبة، فلن نجد لهذه الكلمة فى الآيات التسع الأخرى من معنى إلا ذلك الذى نعرفه للطين، فلماذا تشذ هاتان الآيتان بالذات عن سائر الشواهد القرآنية الأخرى؟ وثالثا فإن عيسى عليه السلام كان إذا ضرب مثلا حكاه بلفظ الماضى، ثم يُفْهِم سامعيه أن كلامه معهم هو على سبيل المثل ولا يترك الأمر عائما، أما فى آيتنا هذه فإنه لا يحكى مثلا بل يعدهم أنه سيفعل كذا وكذا مستخدما عبارات واضحة محددة لا تحتمل لبسا مثل " أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير"، "أنفخ فيه"، "يكون طيرا بإذن الله". ورابعا فقد كان الكلام موجها إلى بنى إسرائيل، الذين كفروا به بنص الآيات نفسها. أى أن كلامه عن تحويل حياتهم من طينٍ حقيرٍ إلى مصيرٍٍ راقٍٍ يحلق فى السماء لم يتحقق منه شىء البتة، فهل يمكن أن يكون هذا هو مصير الآية التى جاءهم بها من ربهم؟ إن هذا لهو العبث بعينه! تعالى الله عن ذلك! إن اللغة بهذه الطريقة تفقد خاصتها، وهى الإبانة والتوضيح، وتتحول وظيفتها إلى التعمية والتضليل! وياليت محمد أسد قد اكتفى بما قاله فى الهامش، بل انعكس ذلك على ترجمته للآية فأصبحت هكذا: " I shall create for you out of clay, as it were, the shape of [your] destiny, and then breathe into it, so that it might become [your] destiny by God’s leave ومعناها:"أنى أخلق لكم من الطين كهيئة مصير (كم) فأنفخ فيه لعله يصبح مصير (كم) بإذن الله". وحسبنا الله، ونعم الوكيل!

وعلى ذات النهج يمضى أسد مفسرا معجزة إحياء الموتى التى عضّد الله بها أيضا عيسى عليه السلام بأن من المحتمل أن يكون المقصود بها بث حياة جديدة فى الميتين روحيا. ثم يضيف أنه إذا صح هذا التفسير، وهو صحيح عنده، فحينئذ يكون لإبراء الأكمه والأبرص نفس المعنى، ألا وهو بث الحياة الباطنية من جديد فى مرضى الروح الذين لا يستطيعون إبصار الحقيقة. ونقول فى الرد على هذا ما قلناه فى معجزة خلق الطير من الطين، فضلا عن التساؤل عن الحكمة فى ذكر البَرَص والكَمَه بالذات دون سائر الأمراض، و"البَرَص" ليس من الألفاظ التى تستخدم مجازيا فى التعبير عن مرض الروح، ومثله فى ذلك "الكَمَه"، الذى لا ينبغى الخلط بينه وبين "العمى"، فهذا قد يستعار للعجز عن الوصول إلى الحق أو عن فهمه، أما "الكَمَه" فهو العمى الخِلْقِىّ الذى يولد الإنسان به لا الذى يطرأ عليه بعد ولادته.

هذا ما قاله محمد أسد فى المعجزات التى وقعت لغير موسى من الأنبياء، أما معجزات موسى فيبدو لى، وأرجو ألا أكون مخطئا، أن أسد ينظر إليها نظرة مختلفة بعض الشىء. ذلك أنه يستخدم لها لفظ "المعجزة"، ثم يضيف إليها مع ذلك معنى صوفيا أو رمزيا. وإلى القارئ ما قاله عن معجزة العصا التى ألقاها عليه السلام، فإذا هى ثعبان مُبِين يبتلع حبال السحرة جميعا. قال: "إن التحول الإعجازى لعصا موسى إلى ثعبان له، فيما أعتقد، مغزى صوفى، إذ يبدو أنه إشارة إلى الفارق الجوهرى بين المظهر الخارجى والحقيقة، ومن ثَمَّ فهو إشارة إلى البصيرة الروحية التى يدرك الإنسان بها هذا التميز الذى يختص الله به عباده المصطفَيْن". فهأنتذا، أيها القارئ، ترى أنه قد أثبت أولا إعجازية العصا قبل أن يفسرها تفسيرا صوفيا كما قال. وفوق ذلك فقد جعل الترجمة هنا موافقة للأصل العربى، ولم يحور فيها كما فعل مع آية "آل عمران" التى تتحدث عن معجزة خلق الطير على يد عيسى عليه السلام.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير