تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تعرضا للعبث والتحريف؟

ولقد وقف الأستاذ أسد مَلِيًّا عند آية "الإسراء" السابقة، لكنه كعادته حاول أن يلوى رقبتها إلى غير جهتها، فوصفها أولا بأنها مشحونة بالمعانى والرموز، تريد أن تقول شيئا آخر غير الذى يُفْهَم من ظاهرها ( highly elleptic)، ثم أضاف أن القرآن فى عدة مواضع منه يلح على أن الرسول محمدا، رغم كونه آخر المرسلين وأعظمهم، لم يُؤْتَ القدرة على صنع المعجزات، التى يقال إن الأنبياء السابقين كانوا يثبتون بها نبوتهم. وهو ما قد يُفْهَم منه أنه لا يصدِّق بوقوع المعجزات، فإنه لا يقول عنها: "المعجزات التى كان الأنبياء السابقون يثبتون بها نبوتهم" بل "التى يقال إنهم كانوا يثبتون بها نبوتهم"، أى أنها مجرد أقاويل. لكنه، رغم ذلك، يعود فيقول إن القرآن رسالة لكل العصور والأجناس والبيئات الاجتماعية إلى آخر الزمان، على عكس رسالات الأنبياء السابقين الذين كانت أممهم عديمة النضج العقلى، ومن ثَمَّ بحاجة إلى الأعاجيب أو المعجزات الرمزية لكى تساعدها على إبصار الحقيقة الباطنة فى رسالاتهم، أما القرآن فجاء بعد أن نضج الجنس البشرى ولم تعد هناك حاجة لتعضيده بالخوارق أو الوقائع الإعجازية ... إلخ [19]. ومن الواضح أن أسد مازال يسلك طريقا روّاغة، فما إن يعطينا باليمين شيئا حتى يسترده بالشِّمال. إنه يذكر "المعجزات"، لكنه سرعان ما يصفها بأنها "معجزات رمزية".

والحق أنى لست بقادر على أن أجد مسوغا لموقفه من المعجزات إلا ما ذكرتُه من قبل من أنها تخرق النواميس الكونية، لكن هل هذا مسوغ كاف لإنكار المعجزات بعد كل تلك الآيات القرآنية التى أوردتُها والتى حاول أسد عبثا أن يَقسِرها على النظر إلى غير جهتها؟ إن الذى خلق هذه النواميس هو الله سبحانه، وليس فيها ولا فى غيرها من أشياء الكون ما يجبره سبحانه على أن يبقيها كما هى فلا يغيرها حين يشاء. ذلك أن الله مطلق القدرة والإرادة، والكون كله خاضع لإرادته المطلقة الشاملة. صحيح أنه أجرى الكون على نظام معين، لكن من قال إن ذلك النظام غير قابل للخرق فى بعض الحالات أو إن الكون سيضطرب إذا انخرق؟

إن الإمام الغزالى مثلا وبعض الفلاسفة الأوربيين المحدثين مثل ديكارت وهيوم ورَسِل يؤكدون أن ما نسميه بـ"قانون السببية" هو أمر لا وجود له، إذ المسألة عندهم لا تخرج عن مجرد تتابع حادثتين، فنظن نحن، لكثرة ما نشاهد هذا التتابع، أن الحادثة الأولى هى السبب فى وقوع الحادثة الثانية كالنار والإحراق، والأكل والشبع ... إلخ. يريدون أن يقولوا إنه ليس فى النار حتمية الإحراق، ولا فى الطعام حتمية الإشباع. [20] والإمام الغزالى، وهو أول من قرر هذه الفكرة، يرى أن الله تعالى هو الفعال الحقيقى للإحراق والإشباع وغيرهما، أما النار والطعام فلا يزيدان عن أن يكونا شيئين يقع معهما ذلك دون أن يكونا هما السبب فيه. وهو ما يعنى أن الله لو أراد أن تكون نار ولا إحراق، أو إحراق ولا نار، لكان ما أراد. وهذا، فى الواقع، هو الرأى الذى ينسجم مع الإيمان بالله وقدرته ومشيئته اللتين لا يعجزهما شىء فى الأرض ولا فى السماء. ولا يقولن أحد إن هذا معناه أن الكون، بهذه الطريقة، ستسوده الفوضى بحيث لا تستطيع البشرية أن تتعامل معه. ذلك أن هذا الخرق للنواميس لا يقع إلا بين الحين والحين البعيد وفى أضيق نطاق، وعلى نحو عارض تعود الأمور بعدها إلى ما كانت عليه. على ألا يغيب عن بالنا فى ذات الوقت أن إرادة الله هى صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة فى ذلك. حتى إذا رأت تلك الإرادة فى نهاية المطاف أن هذا النظام الذى يجرى عليه الكون الآن لا بد من هدمه واستبدال نظام آخر به عند مجىء يوم القيامه كان لها ما رأت، ووَقَفَ العمل بهذا النظام، وبدأ نظام آخر يقوم على قوانين أخرى غير التى نعرف فى دنيانا هذه، قوانين ليس فيها مثلا، بالنسبة لأهل الجنة، مكان للموت ولا للمرض أو الملل أو الخوف أو العفن أو النتن أو الحاجة إلى الإخراج ... إلخ، وهو ما أشارت إليه الآيات القرآنية وفصّلته أحايث النبى عليه الصلاة والسلام.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير