(197:2)].
"نسي القائلون بالبداء أو تناسوا أن الله تعالى حين نسخ بعض أحكامه ببعض، ما ظهر له أمر كان خافياً عليه، وما نشأ رأي جديد كان يفقده من قبل، إنما كان سبحانه يعلم الناسخ والمنسوخ أزلاً من قبل أن يشرعهما لعباده، بل من قبل أن يخلق الخلق، ويبرأ السماء والأرض، إلا أنه ـ جلّت حكمته ـ علم أن الحكم الأول المنسوخ منوط بحكمة، أو مصلحة تنتهي في وقت معلوم، وعلم بجانب هذا أن الناسخ يجيء في هذا الميقات المعلوم منوطاً بحكمة وبمصلحة أخرى، ولا ريب أن الحكم والمصالح تختلف باختلاف الناس، وتتجدد بتجدد ظروفهم وأحوالهم، وأن الأحكام وحكمها، والعباد ومصالحهم، والنواسخ والمنسوخات، كانت كلها معلومة لله من قبل، ظاهرة لديه لم يخف شيء منها عليه، والجديد في النسخ إنما هو إظهاره تعالى ما علم لعباده، لا ظهور ذلك له". [مناهل العرفان، (198:2)]
كيف يمكن أن تجتمع الآيات الناسخة والمنسوخة في علم الله مع أنها متعارضة؟
"يقولون: إن النسخ يستلزم اجتماع الضدين، واجتماعهما محال، وبيان ذلك أن الأمر بالشيء يقتضي أنه حسن وطاعة ومحبوب لله، والنهي عنه يقتضي أنه قبيح ومكروه له تعالى، فلو أمر الله بالشيء ثم نهى عنه، أو نهى عن الشيء ثم أمر به، لاجتمعت هذه الصفات المتضادة في الفعل الواحد الذي تعلق به الأمر والنهي.
وندفع هذه الشبهة بأن الحسن والقبح وما اتصل بهما، ليست من صفات الفعل الذاتية حتى تكون ثابتة لا تتغير، بل هي تابعة لتعلق أمر الله ونهيه بالفعل، وعلى هذا يكون الفعل حسناً وطاعة ومحبوباً لله ما دام مأموراً به من الله، ثم يكون هذا الفعل نفسه قبيحاً ومعصية ومكروهاً له تعالى ما دام منهياً عنه منه تعالى، ... وبهذا التوجيه ينتفي اجتماع الضدين؛ لأن الوقت الذي يكون فيه الفعل حسناً، غير الوقت الذي يكون فيه الفعل قبيحاً، فلم يجتمع الحسن والقبح في وقت واحد على فعل واحد". [مناهل العرفان، (217:2،218)]
بقي أن نفهم معنى الآيتين الكريمتين؛ لرفع وهم التناقض بينهما وبين النسخ الواقع في كتاب الله عز وجل:
"وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا" [الكهف:27]
"مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ" [ق:29]
* قال صاحب الكشاف:
" {وَ?تْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً}
كانوا يقولون له: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، فقيل له {وَ?تْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ} من القرآن ولا تسمع لما يهذون به من طلب التبديل، فلا مبدل لكمات ربك، أي: لا يقدر أحد على تبديلها وتغييرها، وإنما يقدر على ذلك هو وحده {وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ} [النحل: 101] ".
* وقال العلامة الألوسي: "ومن الناس من خص الكلمات بمواعيده تعالى لعباده الموحدين فكأنه قيل اتل ما أوحى إليك ولا تبال بالكفرة المعاندين فإنه قد تضمن من وعد الموحدين ما تضمن ولا مبدل لذلك الوعد، ومآله اتل ولا تبال فإن الله تعالى ناصرك وناصر أصحابك".
على كلا التفسيرين، سواء كان المراد بـ (كلماته) آيات القرآن أم الوعد، فلا تعارض بين الآية وبين النسخ. والأمر واضح.
على كلا التفسيرين، سواء كان المراد بـ (كلماته) آيات القرآن أم الوعد، فلا تعارض بين الآية وبين النسخ. والأمر واضح.
أما آية (ق): فهي بعيدة كذلك عن موضوع النسخ، وقد بينّ الزمخشري معناها بالاستعانة بسياق الآيات، قال: " {قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِ?لْوَعِيدِ} * {مَا يُبَدَّلُ ?لْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ}
{قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ} استئناف مثل قوله:
{قَالَ قرِينُهُ} [ق: 27] كأن قائلاً قال: فماذا قال الله؟ فقيل: قال لا تختصموا. والمعنى: لا تختصموا في دار الجزاء وموقف الحساب، فلا فائدة في اختصامكم ولا طائل تحته، وقد أوعدتكم بعذابي على الطغيان في كتبي وعلى ألسنة رسلي، فما تركت لكم حجة عليَّ، ثم قال: لا تطمعوا أن أبدل قولي ووعيدي فأعفيكم عما أوعدتكم به {وَمَا أَنَاْ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ} فأعذب من ليس بمستوجب للعذاب".
وجاء في (زاد المسير)، لابن الجوزي: " {ما يُبَدَّلُ القولُ لديَّ} فيه قولان.
أحدهما: ما يبدَّل [القول] فيما وعدتُه من ثواب وعقاب، قاله الأكثرون.
والثاني: ما يُكذَّب عندي ولا يغيَّر القول عن جهته، لأنِّي أعْلَمُ الغيب وأعْلَمُ كيف ضلُّوا وكيف أضللتموهم، هذا قول ابن السائب واختيار الفراء وابن قتيبة، ويدل عليه أنه قال تعالى: {ما يُبَدَّل القول لديَّ} ولم يقل: ما يُبَدَّل قولي {وما أنا بظلاّمٍ للعبيدِ} فأَزيدَ على إساءة المُسيء، أو أنقص من إحسان المُحسن".
أتمنى أن تكون هذه الإجابة قد نسخت ورفعت ما كان من تساؤلات.
¥