تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد ورد في القرآن الاشتقاقات التالية من "جهل": الفعل المضارع المسند إلى واو الجماعة: "تجهلون" و"يجهلون"، واسم الفاعل المفرد: "جاهل"، وجمع المذكر السالم "جاهلون"، وصيغة المبالغة: "جهول"، والمصدر القياسي: "جهالة"، والمصدر الصناعي: "جاهلية". ومع أن كل صيغة من هذه الصيغ تحتاج إلى وقفة وتحليل، ومتابعة ورودها في آيات القرآن، إلا أننا سنقف مع صيغة "الجاهلية " فقط.

معنى الجاهلية:

قلنا إن "الجاهلية" مصدر صناعي، من الجذر الثلاثي: جهل. والمصدر الصناعي هو ما كان مختوماً بياء مشددة، تليها تاء مربوطة. مثل: الإنسانية والحرية والعاطفية والشاعرية ... ويتحقق في هذا المصطلح "الجاهلية" المعنى الأساسي لمادة "الجهل"، وهو الخفة والطيش. فالجاهلية هي الحالة العامة من الجهل والخفة، التي تصيب الشخص أو الأمة. وهي إما أن تكون بمعنى عدم العلم، وإما أن تكون بمعنى عدم الانضباط والالتزام، وهذا هو الغالب فيها ...

الجاهلية تعني الخفة والطيش، والتفلّت والتحلل، واتباع الهوى، وعدم الاتزان والانضباط، والقيام بتصرفات وسلوكيات باطلة، وعدم الالتزام بحكم الله وشرعه.

ويمكنك أن تقول: "الجاهلية" حالة نفسية سيئة، تصيب صاحبها، فيرفض الالتزام بحكم الله، والالتزام بشرعه، ويتمرد عليه، ويتّبع الباطل، ويعيش حياته على هواه، بما لا يتفق مع إنسانيته وكرامته. وقد أحسن المفكر الإسلامي الأستاذ محمد قطب وأجاد وأفاد في كتابه "جاهلية القرن العشرين" الذي نحيل عليه، ونوصي الإخوة والأخوات بقراءته والاستفادة منه.

ونؤكد على أن "الجاهلية" ليست مقابِلة للعلم والمعرفة والثقافة، بمعنى أنه لا يوصف بها إلا الإنسان الجاهل، الذي لا علم ولا معرفة عنده، أو المجتمع المتخلف البدائي، الخالي من الاختراعات والصناعات، فهذه الحالة توصف بالجهل وليس بالجاهلية؛ فيقال: هذا إنسان جاهل. أي: غير عالم. وهذا مجتمع جاهل. أي: مجتمع بدائي متخلف، لا علم عنده ولا صناعة.

أما الجاهلية فإنها مقابِلة للهدى والإيمان، والاستقامة والتقوى، والاتزان والانضباط، والجدية والموضوعية، فيوصف بها من فقد هذه الصفات الإيجابية، فرداً كان أو مجتمعاً، وقد توجد مع العلم والمعرفة، وقد تكون مع الصناعة والتكنولوجيا، وقد تتحقق عند إنسان حمل أرقى الشهادات العلمية، وعند مجتمع بلغ الذروة في تكنولوجيا الصناعة والاختراع، حتى وصل إلى القمر والمريخ.

وبمعنى آخر: الجاهلي هو: الكافر، وهو المذنب العاصي، وهو الخاضع لغير الله، وهو المتبع لهواه، وهو الذي يعيش حياته بعيداً عن شرع الله، والمسرف على نفسه بالشهوات والملذات المحرمة.

والمجتمع الجاهلي هو الذي لا يخضع لحكم الله وشرعه، ولا ينظم حياته ومناهجه ومؤسساته على أساس منهج الله. وقد يكون هذا المجتمع متقدماً في الماديات والاختراعات والصناعات التكنولوجية، كما هو الحاصل الآن في القرن الحادي والعشرين.

وقد يكون عند المسلم بعض الممارسات والتصرفات والنظرات الجاهلية، وهي تلك التي تختلف مع الإسلام، مع أنه ملتزم بالإسلام في معظم حياته، ودليل هذا ما حصل من أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، فقد كان من أصدق الصحابة إيماناً وكلاماً، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، حيث قال: "ما أقلَّت الغبراء، ولا أظلّت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر". ومع ذلك أخطأ في حق أخيه بلال الحبشي رضي الله عنه. قال: حصل بيني وبين بلال كلام، فعيّرته بأمه، وقلت له: يا ابن السوداء؛ فشكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: " أعيّرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية! ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى". لم يكن أبوذر رضي الله عنه كافراً، بل كان من أصدق الصحابة إيماناً، ومع هذا أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيه جاهلية، ولم يقل له: أنت جاهلي. وهذا معناه أن الجاهلية ليست كفراً دائماً، وكل من أذنب وعصى ففيه جاهلية بمقدار ذنبه ومعصيته، مع أنه مسلم صالح؛ فكل كفر جاهلية، وليست كل جاهلية كفراً، وكل كافر جاهلي، وليس كل جاهلي كافراً.

وقد وردت "الجاهلية" أربع مرات في القرآن، وكانت في المرات كلها "مضافة" لما قبلها، وفيما يلي بيان مواضع "الجاهلية" في القرآن:

أولاً: ظن الجاهلية:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير