تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويهمنا هنا كيف رسم المدّ الصوتي بالألف هذه المشية المكروهة المنهيّ عنها. فإذا قرأنا (يتمطَّى) بأداء صوتي دقيق في التجويد، فأعطينا الطاء الشديدة المطبقة المكررة بالتشديد حقها من الأداء الصوتي، وأتبعناها مَدّة الألف واقفين عليها، حاكت الصورة الصوتية بذلك، تلك المشية الممقوته، مشية التلوِّي صعودًا إلى الأعلى ونزولاً. وذلك من رائع التصوير الفني في القرآن عن طريق الإيحاء الصوتي، مضافًا إلى الدلالة اللغوية الأصلية للفظة، التي تعرفها العرب في تحاورها.

3 - ومن الإيحاء الصوتي الإفرادي، المدّ بالألف الموحي بالندم والتوجّع النفسي، في مثل قول الكافر يوم القيامة، وقد وقف بين يدي ربه للحساب: ?يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ? (27). فقوله: (يا حسرتا) مشعر صوتيًّا بتوجّعه وندمه، بهذين المدّين اللذين اكتنفا التعبير، وهما مدُّ (يا) ومدُّ (تا)، مضاعفًا إحساس المتلقِّي بندم المُلقي المرير، فضلاً عما في نداء الحسرة بحرف النداء (يا)، من تشخيص استعاري للحسرة، حين جعلها تنادي كما ينادي العاقل، وهذا من بليغ بيان التنزيل.

4 - ومن الإيحاء الصوتي بالشعور بالندم، ما تحدثه (هاء السكت) في قول من فرّط في ما ينبغي عليه أداؤه إزاء ربه وأهله: ?يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ، مَا أغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ? (28). فهذه الهاء إذا وقف عليها القارئ، أشبهت الحسرة في انطلاقها من صدر المتحسّر لندمه. وحقق لها هذا المعنى ورودها (مكسوعة)، أي غير (لاحقة) في آخر هذه الأسماء، فأشبهت بذلك الحسرة.

5 - وقد يكون الإيحاء الصوتي في تعبير القرآن (مقطعيًّا)، وليس إفراديًّا كالذي في لفظة (دمْدَمَ) في قوله ? في (ثمود)، قوم النبيّ صالح ?، حين عقروا ناقة الله التي أُمِروا بألاّ يمسّوها بسوء، فغضب الله سبحانه عليهم، فدمّر قريتهم، فجاء التعبير بهذا اللفظ: (دَمْدَمَ)، بدلالة مزدوجة، إحداهما (لغوية)، وهي الأصلية، أو كما يسمّيها المعاصرون: (مركزية) أو (أساس). والدلالة الأخرى (إيحائية)، وهي لون من الدلالة الثانوية، أحدثها إيقاع اللفظة.

وأما وصف هذه اللفظة (دَمْدَم) بأنها مقطعية، فلأنها ذات مقطعين متماثلين هما: (دَمْ/دَمْ)، فلمّا التأما في اللفظة مكررين، أشعر جرسهما المدوّي بما يشبه القصف: (دَمْدَمَ). وهذه الدلالة الإضافية صعّدت استشعار الشدّة والغضب في تصوير هذه العقوبة الإلهية العادلة، بمن لم يرع لله حرمته، مصداقًا لقوله تعالى: ?إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ? (29)، الذي أكّد بمؤكّدين هما (إنّ) و (اللام). وقد تلت عقوبتهم قتل الناقة مباشرة بلا فاصل زمني كبير يعتدّ به؛ بدليل عطف تلك العقوبة بالفاء على فعل العقر، في قوله تعالى: ?فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا? (30).

(4)

الإيحاء الصوتي للتراكيب:

وقد ينهض التركيب الصوتي بإيحاء معيّن منبعث من خصائصه في صورته المركبة. ويتجلى ذلك في سياق قصة إبراهيم الخليل ?، حين بشّرته الملائكة بالولد، فأثار ذلك عجب واستغراب زوجته، لكونها عجوزًا غير قادرة -في ظنها- على الإنجاب، فلم تلبث أن لطمت وجهها بكفّيها من جهة خدّيها، فكان التعبير عن هذا الحدث بلفظ مغاير للفظ (الضرب) الذي استعمله القرآن في موضع أريد به تأديب الزوجة إذا نشزت على زوجها، بعد مرحلتين من مراحل الإصلاح، وهما: الوعظ بقوله (فَعِظُوهُنَّ)، والترك في المضجع بقوله: ?وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ? (31)، ثم قال سبحانه: ?وَاضْرِبُوهُنَّ ?. واشترطت السنّة النبوية وإجماع فقهاء الأمّة على ألاّ يكون ضربًا مبرّحًا. فهذا الضرب الذي أباح الإسلام مزاولته بعد الوعظ والهجر في الفراش، فما الضرب الذي عبّر به القرآن يا ترى في قصة زوجة أبي الأنبياء ?؟ الجواب: إنه عبّر بلفظ مركّب، دلّ إيحاؤه الصوتي على شدّة وقوّة ذلك الضرب، وهو الفعل (صكَّ)، في قوله تعالى: ? فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ? (32)، وهو اللفظ الذي تفرّد به هذا الموضع، دون لفظ (الضرب) الذي ورد في مواضع عدة من التنزيل، بدلالته الحسيّة لا المجازية، كقوله تعالى في نصح نساء المؤمنين بوجوب إخفاء الزينة التي في أرجلهنّ: ?وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ? (33)،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير