وغير ذلك كثير مما يعني أن دلالة الإشارة قد تاهت , وأصبح كل معنى مفهوم معنىً إشارياً!!
ثم يعود ابن رشيق لينتصر للدلالة الحقيقية للإشارة فيعرض رأي من يزعم أن الإشارة حشو , ويستدلون على ذلك بقول أبي نواس:
قال إبراهيم بالما ل كذا غرباً وشرقاً
فزعموا أن قوله [كذا] حشو, وعجز عن اللفظ الدال على الإشارة.
ثم ينتصر لأبي نواس , ولدلالة الإشارة , فيقول: [ولم يأت بها أبو نواس حشواً , ولكن شطارة , وإن شئت قلت: بياناً وتثقيفاً , كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: " وكيف بك إذا بقيت في حثالة الناس , قد مرجت عهودهم وأماناتهم , واختلفوا ... وكانوا هكذا .. ؟ وشبك بين أصابع يديه ".
ولا أحد أفصح من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولا أبعد كلاماً منه من الحشو , والتكلف] (42).
وهذا الكلام يناقض كلامه السابق , فهو هنا يحدد مستقى الدلالة , ويبرز أهمية الحركة في تكوين المعنى , بل إنه بعد ذلك ذكر من لطائف هذه الدلالة ما لا يكاد اللفظ يقوم به , ومن ذلك: [أن معاوية - رضي الله عنه - أقام الخطباء لبيعة ولده يزيد , فقام رجل من ذي الكلاع فقال:
هذا أمير المؤمنين ............... وأشار بيده إلى معاوية.
فإن مات فهذا ................... وأشار إلى يزيد.
فمن أبى فهذا .................... وأشار إلى السيف.
ثم قال:
معاوية الخليفة لا نماري +++ فإن يهلك فسائسنا يزيد
فمن غلب الشقاء عليه جهلاً +++ تحكم في مفارقه الحديد (43)
فابن رشيق بهذا لا يترك مجالاً لأحد أن يتهمه بالانتقاص من دلالة الإشارة , أو تغييبها داخل الدلالات الأخرى.
لكن ... أين هذا مما قاله أولاً؟ أليس هذا عجيباً؟
ولو أنك أردت أن تبرز ما في الإشارة من دلالات في البيتين السابقين لوجدت اللفظ منك يطول؛ لأن الشاعر أراد أن يبرهن على أحقية سيدنا معاوية , وولده يزيد بالخلافة , وكان لزاماً عليه أن يذكر صفات كل واحد منهما التي تؤهله لهذا المنصب , ولما كان هذا يطول دعاك أن تنظر بإشارته بيده إلى معاوية ليتحقق لديك بما لا يدع مجالاً للشك في أحقيتهما للخلافة.
ألا ترى أن إشارته بيده جمعت من المعاني ما لا حد له؟
فإن اقتنعت بذلك فاعلم أن هذا هو سر الجمال , ولب الإبداع وموطن الفن في هذه الإشارة , فهي لا تذكر لك المعنى , بل تضع عينك عليه لتراه , وفرق بين الأمرين كبير.
ثم يتابع ابن رشيق كلامه في هذه الدلالة , وكأنه يريد منك ألا تلتفت إلى كلامه الأول؛ لأن الإشارة عنده لها قدرة فائقة على تصوير المعنى , بل وتستطيع أن تستقل بالدلالة , ومن ذلك ما حكاه عن أبي نواس , حيث يقول:
[وقد جاء أبو نواس بإشارات أخر لم تجر العادة بمثلها , وذلك أن الأمير بن زبيدة قال له مرة: هل تصنع شعراً لا قافية له؟ قال: نعم , وصنع من فوره ارتجالاً:
ولقد قلت للمليحة قولي من بعيد لمن يحبك ..... " إشارة: قبلة "
فأشارت بمعصم ثم قالت من بعيد خلاف قولي ..... " إشارة: لا , لا "
فتنفست ساعة ثم إني قلت للبغل عند ذلك ....... " إشارة: امش "
فتعجب جميع من حضر المجلس من اهتدائه, وحسن تأتيه, وأعطاه الأمين صلة شريفة] (44)
فلا شك أن صنيع أبي نواس في غاية الإبداع والبيان , حتى أكاد أزعم أن اللفظ لا يقوم مقام الإشارة هنا , من أين لنا بلفظ يعبر عن صوت القبلة , وكم من أصوات لا بيان لها؟
ومن كل ما سبق عند ابن رشيق يتبين لنا أنه في بداية كلامه خلط بين دلالة الإشارة , ودلالة الصور البيانية , حتى التبس الأمر على القارئ .. , ثم في آخر كلامه حرر الدلالة , واستشهد عليها بشواهد تبرهن على أثر الحركة المشاهدة في المعنى.
********
الإشارة عند عبد القاهر ت 471
الناظر في كتابي عبد القاهر لا يلحظ عناية بهذا النوع من البيان: لأنه - رحمه الله -كان مشغولاً بقضية الإعجاز القرآني، وأنها في نظم الكلام، وهذا الهم شغله عن التعريج علي
وسائل البيان الأخرى، إلا بعض اللفتات القصيرة , وذلك مثل تعليقه علي ما لحق البيان من الضيم: لأن البعض [لا يري معني أكثر مما يري للإشارة بالرأس والعين. وما يجده للخط والعقد]. (45)
¥