ومن هذا الباب أيضاً ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها , قال حما: فذكر من طيب ريحها , وذكر المسك , قال , ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض , صلى الله عليك , وعلى جسد كنت تعمرينه , فينطلق به إلى ربه عز وجل , ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل ....
قال: وإن الكافر إذا خرجت روحه , ذكر حماد , وذكر من نتنها , وذكر لعناً , ويقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض , قال فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل ...
قال أبو هريرة: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه ... (90)
فهذا تجسيد لهيئة من شم رائحة كريهة منتنة , حتى اضطرته إلى وضع ردائه على أنفه , مما يعني أنه استشعر هذه الرائحة , وأحس بنتنها , فأراد أن يشرك الصحابة معه في هذا الشعور , فغطى أنفه بالملاءة ليستشعروا هم الآخرون نفس الرائحة , فيكون التنفير من هذا النموذج قد وصل إلى منتهاه.
ومن هذا الباب ما رواه أبو رافع عن أبي هريرة قال: كان جريج يتعبد في صومعة , فجاءت أمه ... قال حميد: فوصف لنا أبو رافع صفة أبي هريرة لصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمه حين دعته كيف جعلت كفها فوق حاجبها , ثم رفعت رأسها إليه تدعوه , فقالت ياجريج , أنا أمك كلمني , فصادفته يصلى , فقال اللهم أمي وصلاتي , فاختار صلاته , فرجعت ثم عادت في الثانية , فقالت: ياجريج أنا أمك فكلمني , قال: اللهم أمي وصلاتي , فاختار صلاته , فقالت اللهم إن هذا جريج , وهو ابني , وإني كلمته فأبى أن يكلمني , اللهم لاتمته حتى تريه وجوه المومسات.
قال: ولو دعت عليه أن يفتن لفتن .. (91)
والإشارة هنا أنها جعلت كفها فوق حاجبها , ثم رفعت رأسها إليه , وهذا التصوير يبين عدة معان:
الأول: أنها وقت طلوع الشمس , واشتداد الحر.
الثاني: أنها امرأة عجوز ضعيفة.
الثالث: أنها جاءت من بعيد , لأن هؤلاء كانوا يتخذون صوامعهم في الصحاري بعيداً عن الحضر رغبة في الخلوة.
رابعاً: أن الدافع لمجيئها دافع قوي , فلقد جاءته مرة ومرتين وكل ذلك ولم تظفر منه بالإجابة , إلا أنه لم يقدر هذه الأحوال؛ ولا شك أن هذه الدلالات مستقاة من إشارتها التي تناقلها الرواة , واحدا بعد الآخر .. وتلك لفتة لا ينبغي أن تمر دون تدبر.
أعني أن الرواة , بداية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلوا إلينا حركة أم جريج , وهي تضع يدها على حاجبها , وترفع رأسها , وكأن هذه الحركة جزء من الدلالة , ولا يمكن نقل جزء من البيان , وترك جزء آخر , فلم يكن المقصود من النقل الإخبار عن أم دعت على ولدها , وإنما المقصود الإخبار عن أم هذا حالها , وتلك ظروفها , ولذلك دعت على ولدها. والفرق واضح بين الأمرين.
ووصول المعنى إلى المتلقي لابد أن يكون بالجمع بين إشارتها ولفظها , ولو أن راويا حكى كلامها , ولم يحك إشارتها وفعلها فقد قصر في النقل , وأساء في التبليغ , ولذلك انظر:
حكى النبي صلى الله عليه وسلم اللفظ والحركة.
ثم حكى أبو هريرة اللفظ والحركة.
ثم حكى أبو رافع اللفظ والحركة.
وهكذا ينبغي على كل ناقل وحاك.
ولا أبالغ إذا قلت إن كثيراً من الشعر قد ضاعت معانيه لا لشيء إلا لأن الرواة نقلوا لنا اللفظ فقط.
إن شعراءنا لم يقولوا الشعر وهم ساكنون سكون الحجارة , بل قالوه وهم يشيرون بأيديهم , أو بغيرها في مواضع كثيرة , فأين هي هذه الإشارات؟
لقد ضاعت , كما ضاع أغلب الشعر.
وهنا يمكن القول بأن هناك تقصيراً كبيراً من رواة الشعر في نقل الحركات والإشارات, والالتفاتات التي صاحبت اللفظ فهي ذات دلالات لا ينبغي التغافل عنها.
وأرى أن هناك بلاغة غائبة عن البيان العربي , وهي تلك البلاغة الكامنة في إشارات الفصحاء , وحركات المتكلمين الذين علكنا ألفاظهم وتركنا إشاراتهم لتضيع في الهواء.
الطباق بالإشارة
الطباق عند العلماء هو [الجمع بين المتضادين , أي بين معنيين متقابلين في الجملة ... ولو في بعض الصور , سواء كان التقابل حقيقياً , أو اعتبارياً] (92)
¥