تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

حَقُّه، إذا حقّقت، أن يكون في القبيل المعنويّ، وذلك أنه وإن كان عَنَى نفسَهُ بالجار، فقد يجوزُ أن يقصد إلى وصْفِ نفسه بنوع من سُوء الحال، ويعطيها صفةً من صفات النقص، ليزيد بذلك في التهكم بالزِّبرقان، ويؤكّد ما قصده من رميه بإضاعة الضيف واطراحه وإسلامه للضُرّ والبؤس، وليس ببعيد من هذه الطريقة من ابتدأ شعراً في ذمِّ نفسه، ولم يرضَ في وصف وجهه بالتقبيح والتشويه إلا بالتصريح الصريح دون الإشارة والتنبيه.

وأما قولٌُ مُزَرِّد: فما رَقَد الوِلْدانُ حتى رأيتُهُ عَلَى البَكْرِ يَمْرِيهِ بِسَاقٍ وحَافِر

فقد قالوا إنه أراد أن يقول: بساقِ وقَدَمٍ، فلما لم تطاوعه القافية وضع الحافرَ موضع القدم، وهو وإن كان قد قال بعد هذا البيت ما يدلُّ على قَصْدِه أن يُحسنَ القولََ في الضيف، ويُباعده من أن يكون قَصَدَ الزراية عليه، أو يَحولَ حول الهزء به والاحتقار له، وذلك قوله: فقلتُ له أهْلاً وسَهلاً ومَرْحباً بهذا المُحيّا من مُحَيٍّ وزائرِ

فليس بالبعيد أن يكون فيه شوبٌ مما مضى، وأن يكون الذي أفضى به إلى ذكر الحافر، قَصْدُه أن يصفه بسوء الحال في مسيره، وتقاذُفِ نواحي الأرض به، وأن يُبالغ في ذكره بشدّة الحرص على تحريك بَكْره، واستفراغ مجْهودهِ في سيره، ويُؤنِس بذلك أن تنظر إلى قوله قبل: وأشْعَثَ مُسْتَرخِي العَلاَبِي طوَّحَتْ به الأرضُ من بَادٍ عَريضٍ وحاضر

فأَبْصَرَ نارِي وهي شقْراءُ أوقِدتْ بعَلْيَاءِ نَشْزٍ للعُيونِ النَّواظِرِ

وبعده فما رَقد الوِلْدان، فإذا جعله أشْعَثَ مسترخِي العَلاَبيّ، فقد قَرُبَت المسافة بينه وبين أن يجعل قدمه حافِراً، ليعطيه، من الصلابة وشدة الوَقع على جَنْب البكر حظّاً وافراً، وهكذا قول الآخر: سأمنَعُها أو سوفَ أجعَلُ أمْرَها إلى مَلِكٍ أظْلافُهُ لم تَشَقَّق

هو في حد التشبيه والاستعارة، لأن المعنى على أن الأظلاف لمن يُربَأ بالمَلِك عن مشابهته، كأنه قال: أجعلُ أمرها إلى ملكٍ، لا إلى عبدٍ جافٍ مُتَشقق الأظلاف، ويدلُّ على ذلك أن أبا بكر بن دريد قال في أول الباب الذي وضعه للاستعارة: يقولون للرجل إذا عابوه: جاءَنا حافياً مُتَشقِّق الأظلاف ثم أنشد البيت، فإذا كان من شَرْط هذه الاستعارة أن يُؤْتَى بها في موضع العَيب والنقص، فلا شك في أنها معنوية وكذا قوله: وذات هِدْم عارٍ نَوَاشِرُها تُصْمِتُ بالماءِ تَوْلَباً جَدِعا

فأجرى التَولب على ولد المرأة، وهو لولد الحمار في الأصل، وذلك لأنه يصف حال ضُرّ وبؤس، ويذكر امرأةً بائسةً فقيرةً، والعادة في مثل ذلك الصفة بأوْصاف البهائم، ليكون أبلغ في سوء الحال وشدّة الاختلال، ومثله سواء قول الآخر: وذكرتُ أهليَ بالعَرا قِ وحَاجةَ الشُعْثِ التَّوَالبْ

كأنه قال: الشُعث التي لو رأيتَها حسبتها تَوالب، لما بها من الغُبرة وبذاذة الهيئة، والجدِع في البيت بالدال غير معجمة، حكى شيخنا رحمه اللّه قال: أنشد المفضَّل تُصمِتُ بالماء تَولباً جَذَعاً بالذال المعجمة، فأنكره الأصمعي وقال: إنما هو تصمت بالماء تولباً جَدِعاً وهو السيّئ الغذاء، قال: فجعل المفضَّل يصيح، فقال الأصمعي: لو نفخت في الشَّبُّور ما نفعك، تَكلَّمْ بكلام الحُكْل وأصب. وأما قول الأعرابي: كيف الطَّلا وأُمُّه؟ فمن جنس المفيد أيضاً، لأنه أشار إلى شيء من تشبيه المولود بولد الظبي، ألا تراه قال ذاك بعد أن انصرف عن السُخط إلى الرضَى، وبعد أن سَكَن عنه فَورةُ الجوع الذي دعاه إلى أن قال: مَا أصنع به؟ آكُلُهُ أم أشرَبُه حتى قالت المرأة "غَرثانُ فارْبُكُوا له"، وأمَّا قوله: إذْ أشْرَفَ الدِّيكُ يَدْعُو بعضَ أسْرَتِهِ عندَ الصَّباح، وهُمْ قومٌ مَعَازِيلُ

فاستعارةُ القوم ها هنا، وإن كانت في الظاهر لا تفيد أكثر من معنى الجمع، فإنها مفيدة من حيث أراد أن يعطيها شَبَهاً مما يعقل، على أن هذا إذا حقّقنا في غير ما نحن فيه وبصدده في هذا الفصل، وذلك أنه لم يجتلب الاسمَ المخصوصَ بالآدميين حتى قدَّم تنزيلها منزلتَهم فقال "هم"، فأتى بضمير مَنْ يعقل، وإذا كان الأمر كذلك، كان القوم جارياً مجرى الحقيقة، ونظيره أنك تقول: أين الأسودُ الضّارِية؟ وأنت تعني قوماً من الشجعان، فيلزم في الصفة حكم ما لا يعقل، فتقول: الضارية، ولا تقول الضارون ألبتة، لأنك وضعتَ كلامك على أنك كأنك تحدِّث عن الأسود في الحقيقة. وعلى هذه الطريقة ينبغي أن يُجْرى بيت المتنبي: زُحَلٌ، عَلَى أنّ الكواكب قومُه لو كان منكَ لكان أكرمَ مَعْشَرا

وإن لم يكن معنا اسمٌ آخر سابقٌ حكمَ ما يعقل للكواكب، كالضمير في قوله وهم قوم، وذلك أنّ ما يُفْصِح به الحال من قَصْده أنْ يَدّعِي للكواكب هذه المنزلة يجري مجرى التصريح بذلك، ألا ترى أنه لا يتّضح وجه المدح فيه إلا بدَعْوَى أحوال الآدميين ومَعارفهم للكواكب، لأنه يفاضل بينه وبينها في الأوصاف العقلية بدلالة قوله "لكان أكرمَ مَعْشَراً"، ولن يُتحَصَّل ثبوتُ وصفٍ شَرِيف معقولٍ لها ولا الكرمِ على الوجه الذي يُتعارَف في الناس حتى تُجعَل كأنها تعقل وتُميز، ولو كانت المفاضلةُ في النور والبهاء وعلوِّ المحلِّ وما شاكل ذلك، لكان لا يلزم حينئذ ما ذكرتُ، وحقُّ القول في هذا القبيل أعني ما يُدَّعَى فيه لما لا يعقل العقل فصلٌ يُفرَد به، ولعله يجيءُ في موضعه بمشيئة اللّه وتوفيقه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير