[الثانى] بيان حكم ذكر الأحاديث الضعيفة فى الوعظ والتذكير وغيره. فنقول، وبعون الله نتأيد: قد روى مسلم فى مقدمة ((صحيحه)) عن ابن عباس رضى الله عنه قال: ((إنا كنا نحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يُكذب عليه، فلما ركب الناس الصعب والذلول، تركنا الحديث عنه)).
ألا فليحذر الذين يخالفون عن أمره، ويكثرون من ذكر الأحاديث النبوية، إعتماداً على كتب المواعظ والرقائق، والزهد وفضائل الأعمال، المشحونة بالمناكير والأباطيل والموضوعات قبل التفتيش عنها فى مظانها، للاكتفاء بالصحيح منها، ونبذ السقيم. ويعظم هذا التحذير فى حق من يتصدى للفتوى، لئلا يقع فى ما نهى عنه من القول على الله بلا علم ((إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون)).
قال أبو حاتم بن حبان ((المجروحين)) (1/ 13): ((فمن لم يحفظ سنن النبى صلى الله عليه وسلم، ولم يحسن تميز صحيحها من سقيمها، ولا عرف الثقات من المحدثين ولا الضعفاء والمتروكين، ومن يجب قبول إنفراد خبره ممن لا يجب قبول زيادة الألفاظ فى روايته، ولم يعرف معنى الأخبار، والجمع بين تضادها فى الظواهر، ولا عرف المفسًّر من المجمل ولا عرف الناسخ من المنسوخ، ولا اللفظ الخاص الذى يراد به العام، ولا اللفظ العام الذى يراد به الخاص، ولا الأمر الذى هو فريضة، ولا الأمر الذى هو فضيلة وإرشاد، ولا النهى الذى هو حتم لا يجوز ارتكابه من النهى الذى هو ندب يباح استعماله: كيف يستحل أن يفتى، أو كيف يسوغ لنفسه تحريم الحلال أو تحليل الحرام، تقليداً منه لمن يخطئ ويصيب، رافضاً قول من لا ينطق عن الهوى)) اهـ.
وقد ترخص جماعة من العلماء فى الرواية، وفرقوا بين ما كان منها فى الأحكام فشددوا، وما كان فى الرقائق وفضائل الأعمال فتساهلوا، واحتجوا لذلك بما روى عن عبد الرحمن ابن مهدى قال: ((إذا روينا عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الحلال والحرام والأحكام شددنا فى الأسانيد وانتقدنا الرجال، وإذا روينا فى فضائل الأعمال والعقاب والدعوات تساهلنا فى الأسانيد)).
وأقول: هذا مذهب فى قبول الروايات قد أخطئ الكثيرون فهم دلالته، ووسعوا دائرة العمل بمفهومه الخاطئ، حتى ضربوا بقوله صلى الله عليه وسلم عرض الحائط، فخرج أكثرهم عن حد التساهل إلى التغافل، وعن قيد التثبت والإحتياط إلى التقصير والإفراط، ولم يفرقوا بين إسنادٍ يسيرٍ ضعفُه مجبورٍ كسرُه، وإسناد ضعفه أكيد وكسره شديد، فقبلوا روايات الكذابين والوضاعين، وتوسعوا فى رواية كل ما يلقى قبولاً ورواجاً لدى عوام المسلمين.
والحق أن التساهل المذكور لا ينبغى أن يتطرق إلى الأسانيد الواهية والموضوعة والباطلة، وإلا لتهدمت قواعد وشرائط أداء وتحمل الروايات، وأهمها عدالة الرواة وضبطهم، وهذا معلوم من مذهب الإمام ابن مهدى نفسه، فقد كان شديد الإنتقاد للرواة، واسع المعرفة بدقائق علل الأحاديث. وتحرير القول فى هذا المهيع الصعب، ما قاله الإمام الجهبذ زين الدين العراقى فى ((التبصرة والتذكرة)):
فإن يُقلْ يُحتجُّ بالضعيفِ ... فَقُل إذا كانَ من الموصوفِ
رواتُه بسوء حفظٍ يُجبرُ ... بكونه من غيرِ وجهٍ يُذكرُ
وإن يكنْ لكذبٍ أو شذَّا ... أو قَوِىَ الضُّعفُ فلم يُجبرْ ذَا
وهذا الذى حرره ـ رحمه الله ـ هو حد الحديث الحسن عند الإمام الترمذى كما سبق ذكره بعاليه. فهذا النوع من الحديث ـ يعنى الحسن عند الترمذى ـ، أو الضعيف المنجبر عند العراقى، هو الذى عناه الإمام عبد الرحمن بن مهدى، وأحمد بن حنبل، والترمذى، والبيهقى، والبغوى، وغيرهم ممن تساهلوا فى أسانيد الرقائق والزهد والدعوات وفضائل الأعمال، وقالوا بجواز العمل بالحديث الضعيف فيها.
وعلى هذ العمل عند جماهير اهل العلم بالحديث، كالعز بن عبد السلام، وأبى عمرو بن الصلاح، وتقى الدين بن دقيق العيد، وتقى الدين على بن عبد الكافى السبكى، وتقى الدين أحمد بن تيميه، وشمس الدين بن القيم، وعماد الدين أبى الفداء ابن كثير، وزين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقى، وشمس الدين الذهبى، وابن حجر، والسخاوى، والسيوطى، وجماعة ممن لا يحصون كثرة.
وقد حرَّر الحافظ ابن حجر العسقلانى هذا المعنى تحريراً بالغاً، فيما ذكره عنه الحافظ السخاوى فى ((القول البديع)) (ص258): ((سمعت شيخنا ـ يعنى ابن حجر ـ مراراً يقول، وكتبه لى بخطه: إن شرائط العمل بالضعيف ثلاثة:
(1) أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج هذا القيد الكذَّابين، والمتهمين بالكذب، ومن فحش غلطه.
(2) أن يكون مندرجاً تحت أصل عام، فيخرج ما يخترع، بحيث لا يكون له أصلٌ أصلاً.
(3) ألا يعتقد عند العمل به بثبوته، لئلا ينسب إلى النَّبىِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ما لم يقله.
قال: والأخيران عن العز بن عبد السلام، وابن دقيق العيد. والأول نقل العلائى الاتفاق عليه)) اهـ.
وأقول: وعندى ان كلام الحافظ العراقى أوثق حجة وأمتن دلالة من كلام ابن حجر، وذلك أن العراقى اشترط فى العمل بالحديث الضعيف أن يكون مروياً من وجهٍ آخر يقويه ويشد أزره، فيرتقى بذلك من الضعيف إلى الحسن لغيره، على مذهب أهل الحديث، أو الصحيح على مذهب الفقهاء، حيث أنهم يستعملون الأحاديث الحسان فى الفقهيات ويصححونها، فقد قال ـ رحمه الله ـ:
رواتُه بسوء حفظٍ يُجبرُ ... بكونه من غيرِ وجهٍ يُذكرُ
وأما ابن حجر فقد اشترط أن يكون الحديث مندرجاً تحت أصلٍ عام، وهذا معنى غير دقيق التصور، وصعب الادراك، فإن إثبات توثق الحديث بالأصل، واندراجه تحته أمر عسير، لا يحققه إلا جهابذة الأصوليين، كالعز بن عبد السلام، وابن دقيق العيد ـ رحمهما الله ـ، لذا لا يُستغرب اشتراطهما له. وقد بسطت الكلام فيما بين كلام الحافظين: العراقى والعسقلانى من المفاضلة فى كتابى ((دقائق الفكر فى علم الأثر)).
وبعدُ .. فإنى أرفع أكف الدعاء إلى مجيب دعوة المضطرين، أن ينفع به كاتبه وقارئه وعموم المسلمين، وأسأله العون على سهل الأمر وقويه، وأعتصم بحبله ومحبة نبيه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
¥