ولقد غفل مخرج (منتقى ابن الجارود) عن هذا الفرق بين الحديثين , أعني حديث الأوزاعي عن عطاء , وحديث الوليد بن عبيد الله عن عطاء , فساق التخريج والكلام عن حديث الأوزاعي , علماً بأن ابن الجارود لم يخرجه أصلاً , بل خرَّج حديث الوليد بن عبيد الله عن عمه عطاء.
وخلاصة البحث: أن حديث صاحب الشجة , حديث ضعيف , لا يُحتجُّ به , أما المسائل الواردة فيه , فأشير على سبيل الاختصار إلى مسألتين فقهيتين:
الأولى: التيمم عن العضو الممسوح. وبعبارة أخرى: الجمع بين المسح والتيمم.
والأخرى: المسح على الجبيرة , وما شابهها.
أما المسألة الأولى: فدليلها ما جاء في حديث جابر رضي الله عنه , حيث قال: (إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ). أَوْ (يَعْصِبَ). شَكَّ الراوي (عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ) ولم يرد هذا الجمع بين المسح والتيمم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما , فهذا السياق , أعني الجمع بين المسح والتيمم انفرد به الزبير بن خُريق عن عطاء عن جابر , والزبير ضعيف , كما تقدم.
قال الحافظ ابن حجر في (التلخيص الحبير) بعد ذكره رواية عطاء عن ابن عباس: لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ هَذِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ذِكْرٌ لِلتَّيَمُّمِ فِيهِ؛ فَثَبَتَ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ خُرَيق تَفَرَّدَ بِسِيَاقِهِ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الْقَطَّانِ. ا. هـ
والمقصود أن الجمع بين المسح على الجبيرة والتيمم , كما في رواية الزبير بن خُريق عن عطاء عن جابر , لا يُشرع؛ لعدم ثبوته من جهة الأثر , ولضعفه من جهة النظر , فإن التيمم يكون بدلاً من الغسل أو الوضوء , وفي هذه الصورة جمع بين الغسل والتيمم , أي بين البدل وبين المبدل عنه. وهو خلاف الأصل.
أما المسألة الأخرى: المسح على الجبيرة , فقد ذهب إلى مشروعية المسح عليها جمهور العلماء , واحتجوا بأدلة , منها هذا الحديث , حديث صاحب الشجة بروايتيه؛ رواية ابن عباس ورواية جابر رضي الله عنهم.
والاحتجاج بهذا الحديث على شرعية المسح على الجبيرة احتجاج ضعيف؛ لضعف الحديث , لكن المسح على الجبيرة ثابت عن ابن عمر رضي الله عنهما من قوله وفعله , أخرجه عنه البيهقي (1/ 228) , وقال: هو عن بن عمر صحيح. ا. هـ
وأفتى بالمسح على الجبيرة فقهاء التابعين , قال البيهقي: لا يثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم في هذا الباب شئ (يعني باب المسح على الجبيرة) , وأصح ما روي فيه حديث عطاء بن أبي رباح الذي قد تقدم (حديث صاحب الشَّجَّة) وليس بالقوي , وإنما فيه قول الفقهاء من التابعين فمن بعدهم مع ما روينا عن بن عمر في المسح على العصابة والله أعلم.ا. هـ (السنن الكبرى 1/ 228)
وذهب ابن حزم في كتابه (المحلى 2/ 74) إلى عدم شرعية المسح على الجبيرة , حيث قال: مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ عَلَى ذِرَاعَيْهِ أَوْ أَصَابِعِهِ أَوْ رِجْلَيْهِ جَبَائِرُ أَوْ دَوَاءٌ مُلْصَقٌ لِضَرُورَةٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , وَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ ذَلِكَ الْمَكَانِ , فَإِنْ سَقَطَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ الْوُضُوءِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إمْسَاسُ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِالْمَاءِ , وَهُوَ عَلَى طَهَارَتِهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} , وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّه ِ: (إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) , فَسَقَطَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كُلُّ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْمَرْءُ , وَكَانَ التَّعْوِيضُ مِنْهُ شَرْعًا , وَالشَّرْعُ لاَ يُلْزَمْ إلاَّ بِقُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ , وَلَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ بِتَعْوِيضِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ وَالدَّوَاءِ مِنْ غَسْلِ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى غَسْلِهِ , فَسَقَطَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ.
ثم أورد بعض الأدلة الضعيفة في المسح على الجبيرة فردها , ثم قال: فإن قيل: قَدْ رَوَيْتُمْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَلْقَمَ أُصْبُعَ رِجْلِهِ مَرَارَةً فَكَانَ يَمْسَحُ عَلَيْهَا.
¥