ثالثاً: عبد الله قد يختصر كلام أبيه بحسب ما يقتضيه المقام، فقد قال مثلاً (1232): ((سألتُ أبي عن يحيى بن صالح الحمصي الوحاظي، فقال: "رأيتُه في جنازة أبي المغيرة". فجعل أبي يصفه، قال أبي: "أخبرني إنسان مِن أصحاب الحديث قال: قال يحيى بن صالح: لو تَرَكَ أصحابُ عشرة أحاديث! يعني هذه الأحاديث التي في الرؤية". قال أبي: "كأنه نزع إلى رأي جهم")). اهـ وقال (1692): ((سألتُ أبي عن أبي زيد الهروي، فقال: "شيخ ثقة ليس به بأس لم أكتب عنه" وجعل يتلهف عليه)). اهـ وقال (4390): ((سألتُ أبي عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، فقال: "قلب أحاديث شهر بن حوشب، وصيَّرها حديث الزهري" وجعل يضعّفه)). اهـ وعبد الله في كثير مِن المواضع يقول: ((فذكر الحديث))، ((فذكر مثله))، ((فذكره)) ونحو ذلك.
ولا يصح أن يكون أحمد قال: (لم يسمعها ... ) في مجلس وكيع؛ لأن عبدالله سبق ذلك بقوله: (قال أبي)، ولو كان الكلام في مجلس وكيع، لأكمل أحمد حكايته قائلاً: (فقلتُ: لم يسمعها ... )، وعبدالله لم يدرك مجلس وكيع ليحكي هو القصة التي حصلت فيه. قولُ عبد الله: ((فجعل يذكر ذلك)) حَذَفَ به الأحاديثَ الخمسة اختصاراً، ثم استأنفَ قولَ أبيه: ((قال أبي: "لم يسمعها .. الخ")). اهـ فما وجه عدم الصحّة؟
لا بد أن لذكر مجلس وكيع بن الجراح فائدة وعلاقة بهذا النص، وإلا فقد كان يمكنه أن يصدر حكمه بعدم السماع دون ذكر وكيع بن الجراح ولا غيره. جاءَ ذِكْرُ أحاديثِ يعلى بن عطاء عن وكيع بن حدس في مجلس وكيع بن الجراح وكان أحمدُ موجوداً، فقال ما قال. وفي بعض أقوال أحمد التي رواها ابنه عبد الله تحديد للتاريخ الذي قيلت فيه أو المكان أو المناسبة، وهذا مِن باب تحرّي الدقة.
لو روجعت أحاديث يعلى بن عطاء عن وكيع بن حدس؛ لوُجد أن يعلى قد صرح بسماعه من وكيع بن حدس في رواية شعبة عنه لأكثر من حديث، ومنها تصريحان في مسند الإمام أحمد نفسه، ولو كان الإمام أحمد يحكم بالانقطاع؛ لنصَّ على خطأ رواية شعبة.
وشعبة من أشد الأئمة تحرِّيًّا في قضايا السماع والاتصال، ويبعد أن يخطئ في ذلك، والله أعلم. بدايةً هو تصريحٌ واحدٌ عند أحمد لا اثنان، وقد تفرّد به بهز. فهذا الحديث رواه عن شعبة اثنان: عبد الرحمن بن مهدي وبهز. فعنعن عبد الرحمن، وقال بهز: "سمعت وكيع بن حدس". وشُعبة يروي أحاديث يعلى هذه بعنعنة يَعلى، ولم يقع السماع إلا عند بهز في حديث: ((رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزء من النبوة)). فخالفَ بذلك عبد الرحمن عن شعبة، وخالفَ الباقين عن يَعلى: هشيم، وحماد بن سلمة، وسفيان. فلم يقع في رواياتهم جميعاً هذا التصريح بالسماع.
هذا ما فهمتُه وما وقفتُ عليه .. والله أعلى وأعلم
ـ[محمد بن عبدالله]ــــــــ[13 - 01 - 10, 08:18 م]ـ
وفقك الله.
لن أطيل وأتكلَّف، فقد أوضحتُ ما عندي، خاصةً أنك طالبتي مرةً ببيان ما بيَّنتُه، ومرةً بتوجيه ما وجَّهتُه، وفهم هذا النص لا يحتاج كل هذا، وإطالة النَّفَس وترداد النقاش في غيره أولى.
وأما سماع يعلى من وكيع بن حدس؛ فإن عامة أصحاب شعبة عليه -ممن جوَّد إسناده وروايته-، لا بهز فحسب.
وحتى لو تفرد بالسماع متفرِّدٌ من أصحاب شعبة، وأخرج أحمد روايته في مسنده؛ فإنه لا يُظَن أن ينفي الإمام أحمد ذلك السماع دون أن ينبِّه على تلك الرواية، هذا بعيد.
وقد أكثر الأئمة من تخطئة شعبة في اسم وكيع بن حدس، ولم يأتِ -فيما وقفت عليه- عن واحدٍ منهم تخطئته في سماع يعلى من وكيع، كما لم يأتِ -فيما وقفت عليه- عن واحدٍ من الأئمة الكلام في أصل ذلك السماع.
فأبعد ما في المسألة -فيما أرى-: نفي سماع يعلى بن عطاء من وكيع بن حدس، والله أعلم.
ـ[أحمد الأقطش]ــــــــ[13 - 01 - 10, 08:29 م]ـ
وفقك الله.
لن أطيل وأتكلَّف، فقد أوضحتُ ما عندي، خاصةً أنك طالبتي مرةً ببيان ما بيَّنتُه، ومرةً بتوجيه ما وجَّهتُه، وفهم هذا النص لا يحتاج كل هذا، وإطالة النَّفَس وترداد النقاش في غيره أولى.
وأما سماع يعلى من وكيع بن حدس؛ فإن عامة أصحاب شعبة عليه -ممن جوَّد إسناده وروايته-، لا بهز فحسب.
وحتى لو تفرد بالسماع متفرِّدٌ من أصحاب شعبة، وأخرج أحمد روايته في مسنده؛ فإنه لا يُظَن أن ينفي الإمام أحمد ذلك السماع دون أن ينبِّه على تلك الرواية، هذا بعيد.
وقد أكثر الأئمة من تخطئة شعبة في اسم وكيع بن حدس، ولم يأتِ -فيما وقفت عليه- عن واحدٍ منهم تخطئته في سماع يعلى من وكيع، كما لم يأتِ -فيما وقفت عليه- عن واحدٍ من الأئمة الكلام في أصل ذلك السماع.
فأبعد ما في المسألة -فيما أرى-: نفي سماع يعلى بن عطاء من وكيع بن حدس، والله أعلم. شرّفك الله ورفع قدرك .. ولا أدّعي أن فهمي هو الصواب، وإنما أحببتُ الاستزادة مِمّا في جنبيك مِن العِلم. ولو لم يكن لهذه المباحثة مِن ثمرةٍ إلا محاورتك لكفى.
وجزاك الله خيرَ الجزاء
¥