وكيف لا يكون الصحابة أحسن ضبطاً من سواهم لما أخبروا به عن نبيهم ? وهم أخوف الأمة من أن يحدثوا بما لم يتقنوه إتقاناً تاماً ويضبطوه ضبطاً محكماً، وأبعدهم عن أن يحدثوا بما شكوا فيه أو ترددوا؛ وليس المقصود بالضبط والاتقان عند المحدثين سعة الحفظ وتعاظم المحفوظات وإنما المقصود به التثبت وأن لا يروي الراوي إلا ما حفظه وأن يؤديه كما سمعه وأهل الضبط بهذا المعنى – لا بالمعنى الأول – يتفاوتون، وهل يخطر ببال أحد من المنصفين العارفين أن ثم من يسبق الصحابة في هذا المعنى؟!
ثم لو افترضنا مساواة الصحابة في الجملة لأصحاب هذه المرتبة الثانية من حيث الضبط أفلا يكفي فضل الصحبة وشرفها لتقديمهم وتمييزهم؟!
ولقد أجاب محمد عوامة في مقدمة تحقيقه (التقريب) (ص24 - 25) عن اعتراض الصنعاني بجواب آخر فيه نظر، وحاصله أن مرتبة الصحابة ليست من مراتب التعديل عند ابن حجر في التقريب، وأن تلك المراتب انما تبدأ من المرتبة الثانية، والله اعلم.
تنبيه: إن التغاير في مرتبة التوثيق بين الصحابة وغيرهم ليس له في باب نقد الروايات ثمرة عملية الا في دائرة ضيقة جداً، ذاك أن الخلاف في الرواية بين صاحب وتابعي لا يتصور وقوعه الا بين حديث مسند وآخر مرسل، ومن المعلوم أنه في مثل هذه الحالة يقدم الحديث المسند ولايلتفت الى المرسل ولو شهدت له مراسيل كثيرة، أو بين حديث يرويه تابعي عن صحابي يقفه أو يرفعه وحديث آخر يرويه صحابي عن صحابي الحديث الاول به، ثم ان نصب مثل هذا الخلاف مشروط بصحة السند الى من ينصب الخلاف بينهما من صحابي وتابعي، وان لا يحتمل ان الاضطراب وقع ممن دونهما في السندين والله اعلم.
*************
المرتبة الثانية
قال رحمه الله: «الثانية: من أٌكد مدحه إما بأفعل كأوثق الناس أو بتكرير الصفة لفظاً كثقة ثقة أو معنى كثقة حافظ».
أقول: حكم احاديث أصحاب هذه المرتبة معلوم، وهو الصحة بل الدرجة العليا منها.
وهذه المرتبة جعلها ابن حجر في النخبة مرتبتين فقال: «وأرفعها [يعني مراتب التعديل] الوصف بأفعل كأوثق الناس، ثم ما تأكد بصفة أو صفتين كثقة ثقة أو ثقة حافظ».
والظاهر أنه لا تناقض بين ما في الكتابين، فالذي في (النخبة) هو مقتضى النظر والتقرير، والذي في (التقريب) هو مقتضى إمكانية العمل وتطبيق القواعد والنظريات، ولا شك أن التدقيق التام والتفصيل الكافي في أحوال جميع الرواة أو الثقات منهم فقط أمر عسير مناله بل إنه متعذر غير ممكن، وأن المراتب كلما قل عددها اتسع للناقد ماكان ضيقا عليه وتيسر له ما كان صعباً في الوصول إليه (5).
*************
المرتبة الثالثة
قال رحمه الله: «الثالثة: من أفرد بصفة كثقة أو متقن أو ثبت أو عدل».
أقول: بنى الفعل (أفرد) لما لم يسم فاعله، والفاعل يحتمل أن يكون سلفه من العلماء الذين يتابعهم ويعتمد أقوالهم أو يكون هو نفسه، فعلى الاول يكون معنى العبارة أنه يدخل في هذه المرتبة من وجد الأئمة قد وصفوه بما ذكر من هذه الاصطلاحات، وعلى الثاني يكون معناها أنه عبر في كتابه عن أصحاب هذه المرتبة عنده بهذه الكلمات، وعلى كلا الاحتمالين لا اعتراض عليه الا في مسألة واحدة، هي لفظة (عدل)، فان المتأخرين - وهو منهم - وسبقهم كثير من القدماء استعملوها بمعنى دون معنى (ثقة)، فإن العدل عند هؤلاء لا يصير ثقة الا إذا جمع إلى العدالة ضبطاً، والله أعلم.
وأما حكم احاديث أصحاب هذه المرتبة فهو الصحة عند ابن حجر وغيره من المحدثين إلا إذا خالفوا أصحاب المرتبة التي قبلها (6).
*************
المرتبة الرابعة
قال رحمه الله: «الرابعة: من قصر عن درجة الثالثة قليلاً، واليه الاشارة بصدوق أو لا بأس به أو ليس به بأس».
أقول: اختلف كلام الناس بعد ابن حجر – ولاسيما اهل عصرنا منهم - في تعيين حكم ابن حجر على احاديث اهل هذه المرتبة، والذي في نخبة الفكر له وفتح المغيث للسخاوي (1/ 66 - 67) وتعليق الدكتور احمد معبد على (النفح الشذي) (1/ 298 - 299) تصريح أو شبه تصريح من ابن حجر بأن تلك الأحاديث عنده حسنة غير مرتقية الى درجة الصحة، قال في النخبة: «وخبر الآحاد بنقل عدل تام الضبط متصل السند غير معلل ولا شاذ هو الصحيح لذاته 000فإن خف الضبط فالحسن لذاته».
¥