"وأما الغلط فتارة يكثر من الراوي، وتارة يقل؛ فحيث يوصف بكونه كثير الغلط، ينظر فيما أخرج (أي البخاري) له، إن وجد مروياً عنده أو عند غيره من رواية غير هذا الموصوف بالغلط، عُلم أن المعتمدَ أصلُ الحديث، لا خصوص هذه الطريق؛ وإن لم يوجد إلا من طريقه فهذا قادح يوجب التوقف عن الحكم بصحة ما هذا سبيله؛ وليس في "الصحيح" بحمد الله من ذلك شيء؛ وحيث يوصف بقلة الغلط كما يقال: سيء الحفظ، أو له أو أوهام، أو: له مناكير، وغير ذلك من العبارات، فالحكم فيه كالحكم في الذي قبله، إلا أن الرواية عن هؤلاء في المتابعات أكثر منها عند المصنِّف من الرواية عن أولئك). ا. هـ.
فتأمل حكمه على من كان كثير الغلط وأنه لا يُحتج بما تفرد به، ثم تأملْ قوله في قليلي الغلط - وهم المقصودون [وقع هنا في الأصل - سهواً - كلمة (عنهم) بعد (المقصودون)، فلتحذف] في هذا السؤال - حيث قال: "فالحكم فيه كالحكم في الذي قبله"، أي أنه لا يُحتج بما تفردوا به، لا عند البخاري، ولا عند الحافظ نفسه؛ والله أعلم.
رابعاً: وفي "هدي الساري" (ص391) (الفصل التاسع) (ترجمة إسماعيل بن عبدالله بن عبدالله بن أويس) قال الحافظ: " وروينا في "مناقب البخاري" بسند صحيح أن إسماعيل أخرج له أصوله وأذن له أن ينتقي منها، وأن يُعلم له على ما يحدث به ليحدث به ويُعرض عما سواه؛ وهو مشعرٌ بأن ما أخرجه البخاري عنه هو من صحيح حديثه، لأنه كتب من أصوله؛ وعلى هذا لا يُحتج بشيء من حديثه غير ما في الصحيح، من أجل ما قدح فيه النسائي وغيره، إلا أن شاركه فيه غيره فيعتبر فيه " ا. هـ.
ومع تصريح الحافظ بعدم الاعتماد على رواية إسماعيل خارج "الصحيح"، فقد ترجمه في "التقريب" بقوله "صدوق أخطأ في أحاديث من حفظه"؛ ا. هـ.
ومعلوم أن قولهم "صدوق يخطئ" أكثر ضعفاً [يعني أكثر تضعيفاً لمن قيلت فيه] من قولهم "صدوق أخطأ في أحاديث"، لما هو معلوم من أن صيغة المضارعة تقتضي التكثير؛ ومع ذلك فلم يحتج بمن قال فيه اللفظ الأدنى، فكيف بمن قال فيه اللفظ الأعلى [يعني الأشد] في الجرح؟!
خامساً: وفي "التقريب" ترجمة هشام بن سعد المدني أبي عباد، قال الحافظ: "صدوق له أوهام"، ومع ذلك فقد ذكره في "الفتح" (1/ 241) ك/ الوضوء، ب/ غسل الوجه باليدين، تحت الحديث رقم (140) فقال: وهشام بن سعد لا يُحتج بما تفرد به، فكيف إذا خالف؟. ا. هـ.
سادساً: سبق أن الحافظ تابعٌ للعلماء في اصطلاحهم، وقد أكثر الساجي من قوله "صدوق يهم" فيمن لا يحتج به؛ مثال ذلك قوله في صالح بن أبي الأخضر – كما في "تهذيب التهذيب" (4/ 381) ترجمة صالح.
وكذلك فقد قال الإمام أحمد في عمرو بن شعيب: "له أشياء مناكير، وإنما نكتب حديثه نعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا "؛ انتهى من "النبلاء " (5/ 166 - 167) و "تهذيب التهذيب" (8/ 149) ترجمة عمرو.
سابعاً: سأذكر عدة تراجم حكم عليها الحافظ بقوله "صدوق يهم"، أو "صدوق يخطئ"، أو "صدوق له أوهام"، أو "صدوق له مناكير أو أغلاط"، أو نحو ذلك، وأريد من المخالف أن يرجع إليها في "تهذيب التهذيب"، فسينظر أن أقوال الأئمة فيها واضحة بالجرح، وأنه لا يُحتج بأهل هذه التراجم، لظهور الجرح في حفظ أهلها، مع أنني لم أقصد استيعاب هذا الصنف)؛ فذكر خمسين راوياً قال عقب ذكرهم:
(فهذه خمسون ترجمة الجرح فيها ظاهر، ومع ذلك ترجمها الحافظ بأحد ألفاظ المرتبة الخامسة، فهل يستطيع المخالف أن يأتي بمثلها أو بنحوها من تراجم "التقريب" ويكون التعديل فيها ظاهراً، وليس هناك تأويل سائغ للحافظ في تليينها، من أجل أن نسلِّم له ما يقول؟
فإن قيل: فإن بعض الحفاظ قد يحتج ببعض من قال فيهم الحافظ: "صدوق يهم"، أو نحو هذا القول، بل الحافظ نفسه قد يفعل ذلك؟
فالجواب أن هذا ليس بظاهر في الدلالة على الاحتجاج مطلقاً بأهل المرتبة الخامسة من "التقريب" لاحتمال أن الاحتجاج ببعضهم لقرائن تقوي مِن أمره، أو لأن الحافظ من الحفاظ لا يرى في الراوي ما يراه ابن حجر، أو لأن ابن حجر نفسه ما استحضر جميع نصوص الأئمة في الراوي، أو رأى في حديث بعينه شيئاً ليس مطرداً في بقية أحاديث الراوي؛ وهذا راجع للقرائن المذكورة آنفاً.
ولو سلمنا بنفي هذه الاحتمالات، فالأدلة السابقة أظهر في الدلالة من مجرد تقوية بعض العلماء لبعض أهل المرتبة الخامسة من "التقريب"؛ وأيضاً فهل اطّرد صنيعُ عالم – فضلاً عن العلماء – على الاحتجاج بهؤلاء البعض، أم ورد عنه الاحتجاج والاستشهاد؟ الراجح الثاني كما في غير ترجمة وقفتُ عليها مما يستدل بها المخالفون على قولهم، والله أعلم).
انتهى كلام الشيخ أبي الحسن وهو في الجملة محقَّق ونفيس، فجزاه الله خيراً؛ وقد قال عقبَهُ منبهاً:
(سبق في السؤال "13" الكلامُ على هذه المسألة بشيء من الاختصار، وما ههنا أبسط وأوسع؛ والله أعلم).
¥